2015/01/24

سيدي .. هل تتحدث الإنجليزية ؟




بقلم : ياسر حجاج

إذا قلت لك أن اللغة الفرنسية ليست من بين العشر لغات الأولى نمواً في العالم ، فلا بد أن هذا سيثير دهشتك ، لكن هذه هي الحقيقة ، وإذا قلت لك أن لكل متحدث أصلي بالإنجليزية هناك أربعة أو خمسة متحدثين بها غير أصليين في العالم ، فإن هذا أيضاً ربما أثار التساؤلات في نفسك حول أسباب النمو الهائل لهذه اللغة حول العالم ، هذا ربما ما أراد أن يوضحه الأمريكي / سكوت مونتجمري في كتابه المعنون :-


هل يحتاج العلم إلى لغة عالمية ؟
اللغة الإتجلزية ومستقبل البحث العلمي

بدا لي الكتاب من الوهلة الأولى وكأنه كتاب متخصص بعض الشئ ، ورأيت أنه قد يكون مفيداً أكثر لأولئك النفر المهتمين بالبحث العلمي ، وكتابة أبحاثهم ونشرها باللغة الإنجليزية في المجلات والدوريات العلمية العالمية ، ولكن ما إن بدأت في تصفحه حتى إستبان لي كم كنت متسرعاً في نظرتي الأولية ، فالكتاب وإن كان يتحدث عن ذلك بالفعل إلا انه كان يحاول الإجابة عن سؤال واحد كبير ( ولِمَ الإنجليزية بالذات ؟ ) .

لعل فقرة صغيرة من الكتاب تحاول أن تضعك كقارئ على أول الطريق حيث (يلتقي منتج كوري ، في فندق بأثينا ، حيث المشتري البرازيلي ، لمجموعة أشياء سويسرية ، وهو لن يتفاوض فقط ، بل سيطلب العشاء من خدمة غرفته باللغة الإنجليزية ، وربما لا يكون هناك متحدث إنجليزي محلي واحد بالفندق ، لكن جميع المقيمين غير المحليين هناك يتواصلون فيما بينهم بالإنجليزية) . 

كان لدي إنطباع (نمطي) أن إنتشار الإنجليزية على نطاق واسع عبر الكوكب لم يكن إلا نتيجة طبيعية للسياسات التي إنتهجتها بريطانيا في الدول التي إحتلتها إبان الحقبة الإستعمارية ، وأنه ومع إنتهاء الحرب العالمية الثانية بإنتصار دول الحلفاء التي تضم إثنين من كبرى الدول ذات الإنجليزية الأصلية (امريكا وبريطانيا) ، فإن إنتشار هذه اللغة قد بلغ مدىً أوسع بالتأكيد ، وهذا وإن يكن صحيحاً ، إلا أنه ليس الشئ الصحيح الوحيد الذي بوسعك الإستناد إليه إن أردت الإجابة عن السؤال سالف الذكر ( ولما الإنجليزية بالذات ؟ ) .

يتحدث الكاتب هنا بأن نحو ملياري شخص في أكثر من 120 دولة حول العالم يتحدثون الإنجليزية بمستوىً مقبول من الطلاقة ، فهذه اللغة باتت تسيطر يصورة كاملة على التواصل الدولي في ميادين العلوم الطبيعية والطب ومجالات رحبة في الهندسة ، كما تعتمد التبادلات العلمية المشتركة على اللغة الإنجليزية ، سواء بين الشركات الأوروبية والأفريقية ، أم بين الشركات الأسيوية ، كما تُصنف براءات الإختراع على نحو شامل بالإنجليزية .

لقد كان مفاجئا لي أن أعرف من خلال هذا الكتاب أنه في العام 2009 وحده حصل الطلاب الأجانب وبخاصة القادمين من الهند والصين على ما لا يقل عن 33 % من إجمالي شهادات الدكتوراه والماجستير في المؤسسات الأمريكية في تخصصات العلوم المختلفة ، وحصلوا على 57 % من إجمالي هذه الشهادات في مجال الهندسة ، وها هو أحد طلاب الدكتوراه الصينيين في مجال الفيزياء يقول (إذا أردنا الحصول على وظيفة باحث هنا ، أو في اوروبا ، أو في أي شركة دولية ، أو حتى على وظيفة عالية المستوى في الصين ، علينا أن ننشر باللغة الإنجليزية ، حتى أن أفضل علماء الصين يفضلون ذلك ، فهم يرغبون في مخاطبة جمهور عالمي ، وهذا يعني اللغة الإنجليزية ) .

إذن فالإنجليزية أضحت لغة عالمية ، بل أنه وداخل الصين نفسها ، تجد أن عشرات الجامعات ، والمؤسسات العلمية هناك وأخصها أكاديمية العلوم الصينية تقدم مقررات علمية وهندسية بالإنجليزية للطلبة الأجانب والصينيين على حد سواء .

يقول الكاتب أن الإنجليزية باتت سريعة الإنتشار وبشكل منفصل عن تأثير بلد كالولايات المتحدة ، ذلك أن حقولاً معرفية ذات بعد دولي قد شهدت نموا مطرداً في استعمال الانجليزية ، ليس فقط في مجال السياحة والتجارة فحسب ، بل في اطار العلوم الاجتماعية والانسانية ، بل أكثر من ذلك فإن التبادلات (المراسلات) بين مديرى الانتاج في تايلند واندونيسيا مثلا تكون باللغة الإنجليزية  ، كما ان محرري الدوريات في كل من الارجنتين وفرنسا يستخدمون اللغة الانجليزية ، أي بصرف النظر عن كون الطرف الاخر كان أمريكيا أم لا ، كما يقول الكاتب انه من اللافت حقاً ووفق للإحصائيات الواردة من بلدان كثيرة حول العالم ، أن المرشحين لوظائف ويمتلكون مهارات أفضل في اللغة الانجليزية ، يمكنهم في الأغلب الحصول على رواتب أعلى بنسبة 30 % إلى 50 % من بقية المتقدمين ، وبصرف النظر أيضاً عما إذا كانت بلدانهم لها علاقات اقتصادية مع الولايات المتحدة أم لا .

وفي العام 2010 وحده أصبح العمل في (تعليم) اللغة الانجليزية نفسه (صناعة عالمية) بلغت 50 مليار دولار ، ويقع جزء بسيط منه تحت إمرة أو إدارة الشركات الأمريكية ، فقد أدت العولمة وشبكة الإنترنت إلى التوسع في استخدام اللغة الانجليزية على نحو أسرع وأوسع ما بين عامي 1995-2010 ، أي أكثر مما فعلته الولايات المتحدة ونفوذها الإقتصادي خلال العقود الأربعة الماضية ، ولم يعد نفوذ اللغة الإنجليزية يتركز في الولايات المتحدة أو بريطانيا ، فمعظم التواصل بهذه اللغة يحدث بين غير الناطقين بها أصلا ، وهذا ما سيتنامى لاحقا ، فقد أصبحت الإنجليزية شيئا مختلفا عن كونه (لغة أولى) أو (لغة ثانية) ، إنها الآن وسيلة عالمية للتواصل التى غدا استعمالها وتقدمها أعظم من النفوذ الأمريكي ذاته ، وأن لا شئ يمكن أن يوقف إنتشارها المستمر بحسبانها لغة عالمية على الأقل في المستقبل المنظور .

مع توسع اللغة الإنجليزية تعرضت آلاف اللغات المحلية للخطر وإنقرضت ، مما دفع بعض العلماء إلى إفتراض علاقة سببية بين الأمرين بشكل عام ، فقد كان التوسع العالمي للإنجليزية في مجال العلوم جاذباً على نحو لا يمكن تجنبه لدرجة من المقاومة والقلق  ، فعديد من اللغات الوطنية والمحلية لن تكون قادرة على التواصل مع الإنجليزية في مجال العلوم ، لاسيما مع المفردات العلمية والتعبير ، وبذلك سوف تموت هذه اللغات واللهجات في هذا المجال الحاسم .

جوزيف ناي
إن محاولة أخرى لفهم أسباب إنتشار اللغة الإنجليزية - حسب الكاتب - هي أن نتأمل ما يسمى (بالقوة الناعمة) الذي صاغه جوزيف ناي وهو عالم علاقات دولية ومساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ، والذي يشير إلى أن الدولة يمكنها أن تكسب التأثير ليس بالقوة فقط ، وإنما بالجاذبية من خلال أمور كالسياسة الفعالة مثلاً ، والمؤسسات الجيدة والثروة ، والإيدولوجيا ، لكن اللغة هي نوع آخر من عوامل الجاذبية ، نوع يلغي أي حدود وطنية ، فكثير من الأمم والشعوب الآن ترغب في التقليد والإستفادة من نجاح هذه اللغة . 

*****
هذه شذرات توقفت أمامها بينما أطالع الكتاب الذي بلغت منتصفه للآن ، والحقيقة أن القدر المتيقن منه في ظني ، أن هذه اللغة تنمو (بفيض) بالغ ، في مجالات عديدة حول العالم ، ويجب أن نكون في عالمنا العربي جزءاً من هذا الفيض بحال من الأحوال ، وذلك بتعلمها وتعليمها وتنمية مهاراتها المختلفة على أساس علمي ومنهجي ، دون الإسترخاء الدائم إلى فكرة (الترجمة) ، وإلا فإن ما يقوله الكاتب سيكون صحيحاً من حيث (أن الدولة التي تقرر أنها لن تُعلم الإنجليزية لشعبها هي دولة تسعى وراء العزلة المستعصية) .

ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن يكون الإهتمام باللغة الإنجليزية على حساب اللغة العربية ، التي يجب أن يتوجه لها الجهد الأكبر ربما ، بحسبانها لغة هوية ثقافية ودينية ، لا خلاف على أهميتها ، لا سيما في ظل التدهور الواضح في آليات التعامل بها (مخاطبة وكتابة) حتى بين أولئك الذين يُفترض بهم عناية أكثر بها ، كخريجي الجامعات وصنوف المتعلمين الآخرين ، ناهيك بالطبع عن قطاع من الصحفيين والإعلاميين الذين أرى لغتهم العربية بائسة في أفضل الأحوال .
 
في النهاية أجد هذا الكتاب رائعاً وموثوقاً للغاية ، فهو لم يصدر إلا منذ أقل من شهرين وتحديداً في أول ديسمبر 2014 الماضي عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت) ، وبالتالي فإنه بوسعك الإعتماد على الإحصائيات والجداول الواردة به ، والتي تعالج موضوعاً كنت أحسبه جافاً أو متخصصاً في أفضل الأحوال ، فإذا به واحداً من أفضل ما قرأت خلال الشهور الأخيرة الماضية ، وعليه فإني أنصح بقراءته ، وإن يكن مترجماً .

على هامش الكتاب
اللغات المحكية العشر الأولى في العالم

1- المندرين (الصينية القياسية)
2- الأسبانية
3- الإنجليزية
4- الهندية
5- العربية
6- البرتغالية
7- البنغالية
8- الروسية
9- اليابانية
10- الألمانية

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة