2015/01/06

ماهية المقدس ! - 4/2




وصلاً بما سبق ، يقول د. حسن حنفي أن المقدس يسهل توظيفه في إعطاء شرعية للسلطة التي تمثله ( رجال الدين أو رجال السياسة ) ، فالمقدس سلطة آمرة تتطلب طاعتها ، وجزاء العصيان هو العقاب في الدنيا ( السياسة ) ، والعقاب في الدنيا والآخرة ( الدين ) ، أي أن هناك عقاباً مزدوجاً في الحياة وبعد الممات .

من ناحية أخرى قد يرتبط المقدس أحياناً بالعنف الديني ، كما حدث في التاريخ حيث جرى إضطهاد المخالفين في الرأي والحكم عليهم بالهرطقة والكفر وتقديمهم إلى محاكم التفتيش للحرق علناً ، كما إندلعت حروباً طاحنة بين الفرق ، مثل البروتستانت والكاثوليك بعد الإصلاح الديني ، أو بين الطوائف المختلفة ( مسلمون - مسيحيون - هندوس ) ، بل أن المسلمين يقتتلون فيما بينهم بإسم المقدس ، وأخيراً فقد إرتبط المقدس بالحدود ( الصلب - القصاص - الرجم - قطع اليد - الجلد - التغريب أو النفي عن الأوطان ) ، وتستمر القسوة بعد الموت بدءاً من عذاب القبر ، والعطش يوم الحشر ، حتى الحرق بالنار يوم الجزاء ! .

يستطرد د. حسن حنفي فيقرر أن المعركة بين العلمانية والدين معركة فعلية ! ، حيث تريد السلفية الإبقاء على المقدس كموضوع خارجي ( الله ، الكتاب ، الكعبة ، المسجد ) أي خارج التطور المعرفي والإنساني ، بحيث تغدو حقائق وسلوكيات ثابتة لا تتغير .

على المقابل من ذلك تجعل العلمانية المقدس فعلاً إنسانياً مرتبطاً بدرجة الفهم ، والقدرة على الفعل ، وتجنب المضار وتحقيق المنافع ، فالمقدس مرتبط بدرجة التطور في وسائل المعرفة والسلوك .

ففي حين ترتبط السلفية بالشكل دون المضمون ، وبالرمز دون المرموز ، أو بتعبير القدماء بالمثل لا بالممثول ، نجد أن العلمانية ترتبط بالمضمون دون الشكل ، وبالمرموز دون الرمز ، وبالممثول دون المثل ، فالعلمانية جوهر الدين ، والدين في جوهره علماني ، والصراع بينهما صراع على السلطة في المجتمع ، وليس ( صراعاً في المصدر الفكري ) ، فالسلفية تكفر العلمانية ، والأخيرة تخون الأولى ، ومصالح الناس ضائعة بين الفريقين المتنازعين .

*****
ينتقل هنا د. حسن حنفي لتأصيل بديع حول المقدس ، فيقول أن المقدس ليس (مقولة معرفية) ، ذلك أن التقديس هو تعظيم وتفخيم يصل إلى درجة التأليه ، وبالتالي فالمقدس (مقولة عملية) أكثر منها نظرية ، أو إتجاه عملي من العالم أكثر منه موقفاً معرفياً ، ومع ذلك فإنه يقوم بوظيفة معرفية من خلال الإيمان به والتسليم لمقتضياته ، والطاعة لنصوصه بما يعنيه ذلك من الحالة الشعورية أو الموقف الوجداني من العالم .

المقدس بالتالي أقرب إلى المقولات الأخلاقية وهو بهذه المثابة مصدر إلزام وإلهام ، يتطلب التسليم له والخضوع لأوامره ، رغبة في ثواب ، ورهبة من عقاب ، لذلك إرتبط المقدس بالتزمت والحرفية والشرعية ، مثل الأحبار الذين قام بنقدهم السيد المسيح لنسيانهم المحبة التي هي شريعة القلب ، فقد يقوم تطبيق الشريعة على النفاق ، بما يعنيه الأمر من إختلاف الظاهر عن الباطن ، أو كمن يتقي (الحبة) ويبلع (الفيل) .

يقول د. حسن حنفي أن بعض الفلاسفة رفضوا قيام الأخلاق على الدين ، بغرض الوصول إلى أخلاق بلا إلزام أو جزاء ، كما قال بذلك جان ماري جويو ، فالواجب واجب في ذاته ، لا طمعاً في ثواب ولا خوفاً من عقاب ، وهو ما أقره المعتزلة والفيلسوف الألماني كانط ، فالدين في جوهر الأخلاق ، فقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ، ( وأصدق الناس ديناً أحاسنهم أخلاقاً ) ، فالمقدس أسهل في الإيمان بها ، والفضائل أصعب في تحقيقها ، لذلك يهرب الإنسان إلى المقدس فراراً من الجهد المطلوب في الأخلاق .

يضيف د. حسن حنفي أن المقدس أقرب إلى الحس الجمالي ، فالله جميل يحب الجمال ، والدين نفسه ظاهرة جمالية ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) ، فالجمال يُبهر ويثير ، فالكون عمل فني له صانع مبدع ، وهو الخالق ، والمتدين يخطو خطوة أبعد من الفنان ، فهو يذهب إلى ما وراء الفن ، أو إلى ما قبل الفن ، أي من ( العلة إلى المعلول ) ، ومن ( الصنعة إلى الصانع ) ، ومن ( الخلق إلى الخالق ) .
كما ترون ، فإن المقدس تحول هنا ( من الأخلاق إلى الجمال إلى الدين ) ، أي إنتقال من حالة ( الشاهد إلى حالة الغائب ) ، ومن ( الطبيعي إلى ما بعد الطبيعي ) ، أو من ( الفيزيقي إلى الميتافيزيقي ) ، وبتعبير فيورباخ هو إنتقال من ( الأصيل إلى المغترب ) ، من ( الشرعي إلى غير الشرعي ) ، من ( حالة الصحة إلى حالة المرض ) .

 فجوهر الإنسان وجوهر الدين شئ واحد ، وهو الوعي الذاتي ، والوعي الأصيل هو الأنثروبولوجيا (الإنسانيات) ، بينما الوعي الزائف هو الثيولوجيا (الإلهيات) ! .                                                  يُـتبع 

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة