2011/10/15

منتهى الحكمة



أبا إبيان
سياسي و دبلوماسي إسرائيلي

( الرجال والشعوب يتصرفون بحكمة بعد أن يستنفذوا جميع الخيارات الأخرى )


عزيزي .. عزيزتي

في طريق سعيه إلى الحكمة يرتكب المرء منا الكثير من الحماقات ، ولديه منطق معقول وحجج لطيفة تقوم على فكرة أن الأمر إذا كان يتعلق بأخطاء وعثرات هنا وهناك وصولاً إلى غاية محددة ودقيقة فلا بأس ، ذلك أن الحياة الإنسانية هي بشكل ما حقلاً لغرس ونمو التجارب والخبرات ، وما كان لأي منا أن يصل إلى غايته ومنتهاه إلا بتجريب واسع ونظر يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ ، وأن الإجتهاد مبرر طالما الغاية النهائية تستأهل هذا النوع من التجريب والنظر ، وأنه قلما يبلغ أحدنا حاجته على أية حال دون وقوع خسائر على الطريق .

في ظني أن مقولة أبا إيبان السابقة لا تعني هذا الصنف من الناس ، إنما ما تعنيه هنا هو أن البعض يروم الحكمة لا لذاتها وإنما لأنه ربما لم تعد لديه المزيد من الحماقات لإرتكابها ، وهذا هو الفارق بين أن تكون أخطاؤك مبررة أو متفهمة على اقل تقدير في سبيل وصولك لغاية على الأرجح تكون نبيلة أو مشروعة ، وبين أن يكون إستهدافك الحكمة التي تسعي إليها بمثابة الملاذ الأخير لإستنفاذك كل سبل الحمق الأخرى .

أحياناً تكون الحكمة على مرمى حجر منا ولا نكلف أنفسنا عناء خطوات قليلة لإلتقاطها ، ولربما نرمقها بأبصارنا ولكننا في الحقيقة لا نريد أن نراها ، ونفضل عوضاً عن ذلك أن نجوب الكرة الأرضية طولاً وعرضاً قبل أن نعود إليها من جديد بعد أن نكون قد إستنفذنا طاقة ووقت فيما لا طائل من وراءه ، إن قليل من التبصر والهدوء من شأنهما أن يعيدا إنتاج خلايا جديدة تساعد على الإقتراب أكثر وأكثر من باب الحكمة الكبير ، قد لا تلج هذا الباب ، قد لا تملك حتى القدرة على طرقه ، قد تعجز ربما عن الإحاطة بحدوده ، قد لا تساعدك قدراتك على مجرد النظر إلى مقابضه ومفاتحه ، ولكن لئن تكون أبعد قليلاً من أبواب الحكمة لهو أفضل بكثير من أن تكون قريباً جداً من أبواب الحماقة ، إن نظرة واحدة حولك وفيمن حولك ستثبت لك أن سحب الحماقة تكاد تغطي الجميع الذين يتفاوتون فيما بينهم فقط على مقدار ما يستوعبونه من هذه السحب الأمر الذي سينتج لك مشاهد متنوعة من اللا معقول واللا مفهوم ، يستوي في ذلك الأفراد والمجتمعات والشعوب .

على أية حال فقد ذكرتني هذه المقولة بأحد الحكماء الذي ناظر الإسكندر الأكبر فسأله :-

  • ماذا ستفعل بعد أن تغزو مصر ؟
  • قال سأغزو بلاد الفرس .
  • وماذا ستفعل بعد أن تغزو بلاد الفرس ؟
  • قال سأغزو بلاد الروم .
  • وماذا ستفعل بعد أن تغزو بلاد الروم ؟
  • قال سأستريح .
  • فقال له الحكيم ولما لا تستريح من الآن ؟

نعم .. فإذا كان بوسعك أن تسترح الآن ، فلما لا تفعل ذلك الآن ؟ وإذا أمكنك أن تشعر ببعض الغبطة والإرتياح الآن ، فلما المماطلة والتسويف ؟ إن اللحظة التي تنتظرها هي الآن وليست لاحقاً ، ذلك أن اللحظات اللاحقة في الواقع قد لا تأتي أبداً ، وإن أتت فأدركتك فلا توجد ضمانة حقيقية أنها ستكون لحظات راحتك وسعادتك .

*****

في الختام أقول أنه في زماننا هذا ليس من (الحكمة) أن تصف شخصاً ما بأنه (حكيم) ، غاية الأمر أن تصفه - إذا كان متسقاً ذهنياً وسلوكياً - بأنه (أقل حمقاً) .

2011/10/02

خبرة الإختزال


بليز باسكال
الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي

( وددت أن أكتب خطاباً أقصر .. ولكن لم يكن عندي ما يكفي من الوقت )

بقلم : ياسر حجاج

عزيزي .. عزيزتي
هذا صحيح تماماً ، فنحن نستهلك وقتاً أطول لنجعل كلماتنا مختزلة وقصيرة ومعبرة ، بينما الكتابة المطولة - كيفما إتفق - تستهلك منا وقتاً أقل بالتأكيد ، والفارق هنا إنما يكمن بين عاملين إثنين ، عامل المعرفة ، وعامل الخبرة ، فتستطيع وفق سعتك المعرفية العادية أن تكتب كثيراً في وقت قليل ، إنما خبرتك فقط هي التي ستتيح لك تبسيط هذه السعة وإفراغها في كلمات معدودة وذات مضمون جيد إنما في وقت أكبر بعض الشئ .

فالكتابة فن للنقش ، إنما إختزالها فن للنحت ، وليس من نقش كمن نحت ، وهذا الأمر لا ينسحب على الكتابة فحسب ، إنما على كل شيء اريد له أن يكون دائراً ما بين الواقعية والجمال ، فبوسع ثمار الفاكهة – وإن كثرت - أن تأخذ طريقها إلى فمك مباشرة في ثوان قليلة ، إنما إن أردت أن تتحول هذه الثمار إلى عصير مركز فلا بد أنك ستأخذ وقتاً أكبر بلا شك لإنجاز ذلك ، وقد تتمكن أيضاً من بناء سور عال حول حديقة منزلك في أيام قليلة ، ولكن إن أردت أن يتوسط الحديقة تمثال صغير وأنيق فإنك ستستغرق أسابيع لنحته .

من ناحية أخرى فالواقعية هي ترتيب منطقي للأفكار ، بينما الجمال هو ترتيب شاعري للأفكار ، فما يعد عابراً لأصحاب الرؤى الواقعية يضحي عميقاً وبعيد الأثر في نفوس أصحاب الرؤى الشاعرية ، فالقمر مثلاً ينير ليلاً فلا يلتفت إليه الواقعيون إلا كما ينظر أحدهم إلى مصباح غرفته وبطرفة عين عابرة ، هذا إذا إلتفت إليه أصلاً أو شعر بوجوده ، إنما أصحاب الخيال وحدهم هم من ينظرون إليه مطولاً ويجيلون ابصارهم فيه بكل حواسهم ويديرون معه ربما حواراً أفلاطونياً كل مساء ، فقصيرة جداً هي الألفاظ التي تكتبها ، وطويلة حقاً هي المعاني التي تحسها ، ولهذا السبب يحب الناس الحكماء ، ويبغضون السياسيين الذين لا يملون الثرثرة والكذب أيضاً .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة