2011/10/02

خبرة الإختزال


بليز باسكال
الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي

( وددت أن أكتب خطاباً أقصر .. ولكن لم يكن عندي ما يكفي من الوقت )

بقلم : ياسر حجاج

عزيزي .. عزيزتي
هذا صحيح تماماً ، فنحن نستهلك وقتاً أطول لنجعل كلماتنا مختزلة وقصيرة ومعبرة ، بينما الكتابة المطولة - كيفما إتفق - تستهلك منا وقتاً أقل بالتأكيد ، والفارق هنا إنما يكمن بين عاملين إثنين ، عامل المعرفة ، وعامل الخبرة ، فتستطيع وفق سعتك المعرفية العادية أن تكتب كثيراً في وقت قليل ، إنما خبرتك فقط هي التي ستتيح لك تبسيط هذه السعة وإفراغها في كلمات معدودة وذات مضمون جيد إنما في وقت أكبر بعض الشئ .

فالكتابة فن للنقش ، إنما إختزالها فن للنحت ، وليس من نقش كمن نحت ، وهذا الأمر لا ينسحب على الكتابة فحسب ، إنما على كل شيء اريد له أن يكون دائراً ما بين الواقعية والجمال ، فبوسع ثمار الفاكهة – وإن كثرت - أن تأخذ طريقها إلى فمك مباشرة في ثوان قليلة ، إنما إن أردت أن تتحول هذه الثمار إلى عصير مركز فلا بد أنك ستأخذ وقتاً أكبر بلا شك لإنجاز ذلك ، وقد تتمكن أيضاً من بناء سور عال حول حديقة منزلك في أيام قليلة ، ولكن إن أردت أن يتوسط الحديقة تمثال صغير وأنيق فإنك ستستغرق أسابيع لنحته .

من ناحية أخرى فالواقعية هي ترتيب منطقي للأفكار ، بينما الجمال هو ترتيب شاعري للأفكار ، فما يعد عابراً لأصحاب الرؤى الواقعية يضحي عميقاً وبعيد الأثر في نفوس أصحاب الرؤى الشاعرية ، فالقمر مثلاً ينير ليلاً فلا يلتفت إليه الواقعيون إلا كما ينظر أحدهم إلى مصباح غرفته وبطرفة عين عابرة ، هذا إذا إلتفت إليه أصلاً أو شعر بوجوده ، إنما أصحاب الخيال وحدهم هم من ينظرون إليه مطولاً ويجيلون ابصارهم فيه بكل حواسهم ويديرون معه ربما حواراً أفلاطونياً كل مساء ، فقصيرة جداً هي الألفاظ التي تكتبها ، وطويلة حقاً هي المعاني التي تحسها ، ولهذا السبب يحب الناس الحكماء ، ويبغضون السياسيين الذين لا يملون الثرثرة والكذب أيضاً .

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة