2008/11/23

4- إرث وورثة

ذهب المعز مازال براقاً

لم يكن السيف وحده هو العامل الوحيد الذي حافظ للبغاة على مقاليد الأمور ، ولا كان الأساس الوحيد الذي إستندوا إليه في توطيد دعائم حكمهم ، بل كانت هناك عوامل متضافرة ومختلفة ساهمت جميعها وبأشكال مختلفة في إعمار كياناتهم وتأسيس دولهم وتوريثها من بعدهم ، ومن بين هذه العوامل .. عامل المال .. ويا له من عامل ذلك الذي إستمال قلوب وأطاح برؤوس أناس كنا نحسبهم عقلاء القوم فإذا بهم يسقطون صرعى لرنين الدينار وصدى الدرهم ، فلقد عميت أبصاهم وإمُتحنوا وُفتنوا فما قويت عزائمهم ، ولا صمدت كرائمهم أمام وحش المال الذي إستذلهم فإستحالوا أمامه كعجينة صلصال يسيرة التشكيل ، سهلة التلوين ، طيعة لكل أشكال القوالب والطرز فتراهم ينطقون بكل اللغات ويتمتمون بكل اللهجات ، حركاتهم محسوبة ، وإلتفاتاتهم محكومة ، لا يقدمون موضع قدم ولا يؤخرونه ما لم يكن للبغاة في ذلك رضى ، فبضل المال الذي إكتسبوه بات أصحاب السلطان ذوي ألسن فصيحة وأراء رشيدة ، لا يصدرون إلا عن سديد الرأي ومحكم القول ، فالرأي ما رأوه ، والقول ما قالوه ، حلهم حلال وحرامهم حرام ، ولعلي إستطرفت الأمر يوماً وتساءلت في نفسي عن هذه الجينات العجيبة للمال التي جربها مهرة شراء النفوس ونخاسوا الذمم على من يختارون من عباد الله ليزينوا لهم أعمالهم ، ولربما تساءلت عن تلك الآثار العجيبة التي ترتبت على عمل هذه الجينات فرأيتها تتغلغل إلى عقول وقلوب ونفوس هؤلاء تغلغلاً فريداً فتحيل الواحد منهم في لحظة إلى كائن شفاف لا يكاد يلامس أطراف الأرض إلا بخفة كخفة الطير الكاسر الذي يلتقط لحم فرائسه فيعاود الطير في السماء محلقاً وناظراً بشذر إلى الأرض ومن عليها ، ويستمر تفاعل عمل هذه الجينات فتجري الحكم الكواذب على ألسنتهم مجملة كل قبيح ، ومبررة ما ليس بوسع أحاد الناس تبريره محدثة هذه الرائحة التي لا تخطئها أنف كل ذو سحت وغرض ، تلك الرائحة التي تدير العقول وتذهب بها كل مذهب تريد فتحط في ساحة السلطان فتنهل منه كالمريد من شيخ طريقته ، فينهل ما شاء له أن ينهل فينطلق وقد ُقدحت قريحته فيسل لسانه وغثائه ويبطش بمعوله هامة كل من لا تعجبه سيرة ولي المال والذهب .. ومن ذاق عرف .. إن بيوت الحكم وقصور الممالك والإمارات ومنذ القدم لملىء بهذا الصنف من الناس ممن يجيدون هذا الفن غير النبيل ، وهم وإن كانوا يحملون الآن مسميات عصرية أنيقة ، فإن هذه المسميات مع أناقتها لا تخفي بطبيعة الحال الدور المرسوم لهم ولا تغطي بأي حال على روائح ما إكتسبوه من محرم المال ، إن وظيفة بيع الضمائر بالبخس والثمين كالبغاء تماماً قديمة قدم التاريخ ذاته ، وإن شئتم فإنني لا أجد كثير فارق بيع الضمير وبيع الجسد فكلاهما متعة محرمة ، وكلاهما ينال من مرؤة الإنسان وشرفه ، وفي الحالتين ستجدون أن هناك نخاساً ما ، وهناك من ينتظر الإشارة للبيع ، وهناك عرض للبضاعة ، وهناك الوسطاء والسماسرة ، وسيظل الأمر كذلك مادام للذهب بريــق ، وللمال رنيــن
يُتبع

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة