2020/01/27

البابوان .. ومدينة الله !




بقلم : ياسر حجاج



لستُ معتادًا على مشاهدة أية أفلامٍ أجنبية أكثر من مرة، غير أن هذه القاعدة تشهدُ - على فتراتٍ متباعدةٍ - شيئًا من الإختراق، وهذا لا يكون غالبًا إلا عندما تكون العناصر الإستثنائية تعمل بكامل طاقتها. فالموضوع الذي يتناول ما يجري وراء الأسوار في إحدى مُدن الله على الأرض "الفاتيكان" لا بد وأنه يستأثر بإهتمام الكثيرين، ممن لهم ولع بهذا النسق من الموضوعات، وإذا اكتملت عناصر النجاح بسيناريو يؤسسُ لحوارٍ بديع، وكاميرا تعرفُ كيف تضبط زواياها بدقة، مع مخرجٍ يدركُ تمامًا ما هو مقبلٌ عليه، فإن الجميعَ من أمام الشاشات سيكونون بالضرورة في يوم سعدهم، لاسيما بوجود بطلين إثنين من عينة فاخرة كأنطوني هوبكنز، وجوناثان برايس.


يُغطي الفيلم الفترة أعقبت وفاة بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني عام 2005، والظروف التي واكبت إختيار خلفًا في المنصب البابوي الرفيع، حيث جرى إنتخاب أحد أقطاب المحافظين داخل الكنيسة وهو البابا بندكتوس السادس عشر، الذي عاد واستقال من منصبه في عام 2013، في سابقة لم يألفها أتباع الإيمان المسيحي الكاثوليكي، حيث تولى من بعده - حمل مفاتيح مدينة الله - البابا الحالي فرانسيس، أحد رموز الإصلاح بالكنيسة والمُتحدر من أصولٍ لاتينية، فهو أرجنتيني يعشقُ كرة القدم ويهوى رقصة التانجو، بحسبانهما من التقاليد الملازمة لكل من يحمل جنسية هذا البلد.


في كل مؤسسة دينية عريقة، يحفل الإيمانُ بكل المتناقضات، ما بين التشدد والتيسير، والنظرة التقليدية العتيقة في مواجهة الأفق التقدمي المعاصر، والفهم الجامد للنصوص ضد الرؤية التى تُعنى بالغايات والمقاصد. كان البابا بندكتوس السادس عشر يمثل الإتجاه الأول وجسده بروعة منقطعة النظير الفنان أنطوني هوبكنز، فيما كان البابا فرانسيس يمثل الإتجاه المقابل، وجسده بأعلى درجة في سُلم الإبداع الفنان جوناثان برايس، وقد كان الحوار بينهما في مناسبات عديدة - داخل العمل الفني - تحفة حقيقية تُحسب لكاتب السيناريو، الذي إستند إلى وقائع حقيقية من وراء أسوار  الفاتيكان.

الشيء الذي يُحسب لهذا العمل الفني الفريد ضمن أشياء كثيرة، هو الجرأة في طرح الموضوعات العقائدية على بساط البحث، دونما شعور بالحرج، مع الإنتصارِ لفكرة "تجديد الخطاب الديني" ومناقشة كل عناصر الإيمان، بل وربما الإنقلاب على ثوابتٍ معينة، ما كان يدورُ بخُلدِ أحدٍ الإقتراب منها بشكل من الأشكال. هذا الفيلم في الواقع ظل طوال الوقت يضع المشاهد أمام كل الصور المتناقضة، ويُداعب ناظريه بالنفيس والبسيط، فما بين فخامة وريث الكرسي الرسولي، ومباني الفاتيكان وأيقوناتها الباذخة ورسوماتها التي تشبه الأعراس المقدسة، وبين البابا شديد التواضع الذي يرتدي حذاءً بسيطًا يدعو حقًا للرثاء، وكأن الفيلم يقول للمشاهد : اختر السبيل الذي تود السير فيه حتى النهاية، وقد حفل الفيلم بالعديد من الحوارات الشيقة والجمل البديعة الموحية، ليس أقلها أن يكون الهدف من الإيمان هو أن تبني جسورًا مع الناس، لا أن ترفع في وجوههم جدرانًا!

يمثلُ الفيلم -بصورةٍ من الصور- إنتصارًا للإنسان ولمبدأ الرحمة حتى تجاه العصاة من المؤمنين، وأن العصا الغليظة ليست بالضرورة وسيلة فعالة لتحقيق مراد الله، وأن القربان المُقدس وهو أحد أسرار الكنيسة لا يُقدم مكافأة للأطهار، وإنما لأفواه الجائعين، وأن المسيح عليه السلام، كان وجهه وجه رحمة للعصاة، وأكثر رحمة ربما لأشدهم عصيانًا. إن فيلمٌ The Two Popes جديرٌ بالمشاهدة، وربما أكثر من مرة.



أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة