2011/07/26

(2) أبو الهول ثائراً


بقلم : ياسر حجاج
هكذا إذن .. لا تندلع الثورات الشعبية من باب المحاولة لممارسة ترفاً فكرياً أو حركياً ، او كسراً لحالة من الملل أو الإسترخاء الجماعي ، فالثورات تقوم فعلاً لدواعي جدية وحقيقية بغرض إحداث قدر من السيولة لمعالجة تجلط الرؤى والأحلام في جسد الأوطان ، ورغبة في إنهاء العمل بتفاعل كمياء العلاقة غير المتكافئة بين الذئب والحملان ، والشعوب في الحقيقة ليست بالضرورة صاحبة فن في هذا النوع من المعالجات ، إنما يندفع أكثرهم لأغراض عديدة ومتباينة ليس غايتها النهائية سوى الرغبة في تغيير قواعد اللعبة ، بحيث لا يبدو الأمر فيها دائماً وكأنها مباراة من طرف واحد ليست الشعوب فيها سوى الجانب المنهزم دائماً .

وبقدر ما تكون الآلام موجعة وطويلة ، يكون النفس الشعبي حيالها عميق وحار ، وفي تقديري أن الثورات الشعبية التي تأتي بعد ليل طويل من المعاناة والمكابدة،  وعلى الرغم من كونها تعبر وبكل شغف عن مكامن المرؤة في نفوس الناس ، فإنها تعبر كذلك وبشكل ما عن أن هذه المرؤة المنتفضة قد خلدت إلى الإسترخاء زمناً طويلاً ودخلت - وإن كانت مضطرة - في طور اللا وعي الطويل ، وعندما بلغ الأمر بالشعوب مبلغه وصار الإسترخاء هو والموت بمعنىً واحداً ، وأن الحياة بصيغتها الراهنة لا تختلف كثيراً عن اللا حياة ، يهب الناس إزاء ذلك للسير في إتجاه عكسي لحركة الزمن الرتيبة ليس فحسب بغرض للدفاع عن حرياتهم ، وإسترجاع حقوقهم بقدر هبتم للتأكيد على أن ما يجري في عروقهم دماً حاراً ، وليس ماءاً بارداً .

والثورة كذلك هي بمعنىً من المعاني ، نوع من الثأر، فالشعوب وبعدما إبتلعت على مضض ومرغمة كل أنواع الهزائم ، وأضحت على أثر ذلك متخمة بالتراجع ، تراها تدخل بعد حين في مرحلة التشبع في حدها الأقصى ، وتضحى غير قادرة على مضغ المزيد ، فتقرر في لحظة ثورية فارقة ، أن تتقيئ كل إحباطاتها وتقلب الطاولة في وجه الجميع ، وعلى نحو تراجيدي أحياناً متجاوزة به حتى الخط الذي يعيد إليها عافيتها ونبضها ، ولأن الثأر يشكل لوناً لافتاً وغير مفهوم أحياناً لدى قطاع غير قليل من المصريين ، فإنه يظل يراود أفكار الكثيرين منهم ، ويضغط على مخيلتهم من أجل إنفاذه في حق من يعتقدون أنه إستلبهم شرفهم وكرامتهم .

إن الهبات والإنتفاضات الشعبية تحمل في البدء ، معنى الثورة على دواخل المنتفضين أنفسهم قبل غيرهم ، وكأنهم يريدون بفعلهم تحرير منابت مرؤتهم ، وإطلاق سراح إنسانيتهم التي تيبست من أصفاد السكون والتعامي والإسترخاء الطويل ، ومن هنا ربما تأتي الأهمية المتعاظمة للعكوف بجد وإجتهاد على إعداد كشف حساب سريع ودقيق ومتجدد مع النفس ، ومع الغير لا من أجل العمل على إستئصال أيقونات ورموز الفساد وحسب ، بل وقبل كل شئ البحث في الأسباب التي دعت كل واحد منا إلى أن يصم أذنيه عن سماع أنين المعذبين ، ويعصب عينيه ، فلا يرى المخازي والمآسي ، ويحجر على لسانه فلا ينطق بالحق في وجه الذئاب الظالمة ، إن كشف حساب من هذا القبيل ربما يكون كفيلاً بالوصول إلى حالة صحية مجتمعية على المدى البعيد ، ذلك أن معالجة الأمراض رغم ضرورتها المنطقية ، فإنها يجب ألا تُشغل الطواقم الطبية المعالجة عن النظر بجد في الأعراض التي سبقتها ، وبخلاف ذلك سيظل الوطن كله في حالة موت إفتراضي يشكل المواطنون فيه وبشكل رئيسي أكبر نسبة من شعوب العالم تعيش متصلة بأجهزة تنفس صناعي ، بحسبانها غائبة عن الوعي .

بدت لي الثورة المصرية كحال لوحة فنية ، أبى كل الفنانون الثوريون ، وحتى غير الثوريين منهم ، إلا أن يخطو بها خطاً ولو بدا غير متسق ، أو رسماً وإن كان غير ذا دلالة ، أو بقعة لون وإن كانت صارخة ، وأراد كل منهم وعلى طريقته أن يسجل شهادته على الثورة ، ويوثق وفق رؤاه الإبداعية الثورية الخاصة به معنىً مفاده : لا تنسوا ... فلقد مررت من هنا ، مشيراً إلى ميادين الثورة ، وللحديث تتمة .

2011/07/21

(1) أبو الهول ثائراً

بقلم : ياسر حجاج
في تاريخ الشعوب والمجتمعات ، تعد الثورات بمثابة الإنعطافات الحادة والنتؤات البارزة والأخاديد العميقة ، ولكونها كذلك فإنها هي التي تعيد رسم الخارطة التاريخية والجغرافيا السياسية لهذه الشعوب وتلك المجتمعات ، والثورات على تنوع مشاربها ، وإختلاف أمزجتها تعمل بقصد ومن غير قصد أحياناً على إعادة تموضع المشاهد ، وضبط زوايا الرؤية ، مع مزج مستحدث لألوان الطيف داخل مجتمعاتها ، بل والعمل كذلك - إن أمكن - على صياغة الأحاسيس والمشاعر من جديد .

مرة أو مرتين في عمرك قد تعاين ثورة رأي العين هنا أو هناك ، وقد ينقضي عمرك كله دون أن تعاين أي ثورة ، وبالتالي فلن تقف على مشاهدها ، ولن تتبع نتائجها وأثارها في نفسك وفيمن حولك ، فالثورات في عمر الشعوب هي حالة إستثنائية على قاعدة الجمود والرتابة والبرودة ، ولكونها إستثناءاً بهذا المعني فإنها غالباً ما تٌحدث درجات متفاوتة من السيولة والمرونة والحرارة ، ولأن الثورات إستثناءاً فلا تتوقع منها إلا منطقاً إستثنائياً ، ومساراً إستثنائياً ، وخصومة إستثنائية أيضاً .

في عصر الثورات يخالُ المرء أن كل شئ يثور من حوله ، الناس ، والكائنات ، وحتى الجمادات ، فيندر حينئذ أن يظل شئ على حاله ، دون أن يتلبس بهذه الحالة الثورية بدرجة أو بأخرى ، فالكل إما ثائر بذاته أو هو قابل للتفاعل مع هذا الحس الثوري من خلال تلك الأنفاس الحارة الثائرة ، التي تعلو كما الأبخرة والتي تعود فتهبط على كل كائن بقدر يتفاوت بمقدار ما يسعه صدره أو تستوعبه رئتاه فينتقل معها وبها من حالة شهيق ثورى ، إلى حالة زفير أكثر ثورية وسخونة .


ولأن الثورات لا يقوم بها غالباً الشعراء أو الفنانون أو الرومانسيون وحدهم ، فلا تنتظر منها أن ترسم لك المشاهد التي تود أن تراها ، ولا أن تعزف لك الألحان التي يطيب لها سمعُك ، فالثورة لوحة كبيرة ، بالغة الطول والعرض ، بالغة العمق والتعقيد أيضاً ، فتتقاسم اللوحة كل اللغات وتتسع لكافة أوجه التعبير ، وتقبل برحابة كل أنواع الفنون ، الراقي منها والمبتذل ، وتحفلُ بكل من يخط بها خطاً ، فبها الخطوط المستقيمة الدقيقة ، وبها المائل والمتعرج ، عموماً سأترك هنا بعض إنطباعاتي عن الثورة المصرية ، وردود أفعالي العفوية تجاهها تسرعاً وتأملاً ، وللحديث تتمة .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة