2007/02/28

2- أفلاطون ... عريض المنكبين

كان أفلاطون أحد الذين حبتهم السماء بكل هبة يمكن أن يتصف بها إنسان ، فقد إجتمع له نبل الأصل وعراقة المحتد وثراء الوالدين وجمال الصورة ورجاحة العقل وقوة الجسم حتى لقد لقبوه بأفلاطون ومعناها باليونانية عريض كناية عن عرض كتفيه ، أما أسمه الصلي فكان أريستوكل .. على أن أهم ما إتسم به كان شغفه الشديد بالحكمة والمعرفة .. ذلك الشغف الذي قاده في سن العشرين إلى التتلمذ على يد المعلم الأكبر سقراط الذي كان وقتئذ في الثانية والستين من عمره .
ومن البداية تعلق أفلاطون بسقراط وإنضم إلى حلقة مريديه وحوارييه النابهين الذين كانوا يتبعونه في شوارع أثينا أينما سار مثل ظله ويصغون إلى مناقشاته وأرائه وأسئلته العسيرة التي لا تنتهي .. ما هي الفضيلة ؟ ما هي الشجاعة ؟ ما هي الأمانة ؟ ما هي التقوى ؟ ما هي الديمقراطية ؟ ما هو العدل ؟ ما هو الحق .. ما هو .. ما هو .. وماذا تعرف عن ... ؟
وبهذه الإستجوابات اللحوحة الفاحصة رفع سقراط من أمام أعين الأثينيين مرآة الغرور ووضع لهم مكانها مرآة الحقيقة فأفزعتهم النتيجة ، فإنهم لم يروا في المرآة صورة آدميين ، بل صورة وحوش .. حتى إنتهى الأمر بهم إلى محاكمته بتهمة إفساد الشباب ثم الحكم بإعدامه وأفلح بعض تلاميذ سقراط ومنهم أفلاطون في رشوة حارس السجن كي يتيح لسجينه فرصة الهرب ، وطالبوا معلمهم بإنتهاز الفرصة المواتية لكنه رفض في إباء .. لقد حلت ساعته ، فليواجهها بشجاعته المألوفة التي طالما واجه بها الموت في شتى مراحل حياته ، إذ من الخير له أن يموت الآن وهو بكامل قوته من أن يعيش حتى تدهمه الشيخوخة والعجز ، وهو الذي لا يطيق الحياة بغير قوة وصحة ونشاط ، والذي ينفرد دون مواطنيه بالقدرة الخارقة على السير حافي القدمين فوق الجليد في زمهرير الشتاء .

وعندما مات سقراط رأى أفلاطون أنه من الأوفق له أن يغادر أثينا ، إذ أنه جهوده لإنقاذ سقراط جعلته في نظر السلطات رجلاً موصوماً ، فبدأ رحلة حول العالم الذي كان معروفاً وقتئذ .. حيث زار إيطاليا وصقلية ، حيث صدمته حياة الشهوات والمجون التي يحياها أهل هذه البلاد ، ومنها عرج على مصر وفلسطين ، فلما عاد إلى أثينا بعد إثني عشر عاما كان قد إختزن في ذهنه حكمة العالم القديم بأسرها ، فإفتتح مدرسة للفلسفة في حدائق أثينا الجميلة وسط إطار من التماثيل والأشجار والمعابد الثرية ، وأطلق عليها الأكاديمية ، وكان من تلاميذه فيها الفيلسوف أرسطو ، وحمل أفلاطون على عاتقه أن ينشر تعاليم أستاذه الأعظم سقراط القائمة في أساسها على فكرة تقديس العدالة .

وفي سبيل توكيد معنى العدالة كتب أفلاطون سلسلة محاوراته الخالدة التي قال فيها المفكر إمرسون فلنحرق جميع المكتبات فإن كل محتوياتها يتضمنها هذا الكتاب ، وفي الواقع أنه يندر أن يوجد موضوع إنساني لم يتعرض له أفلاطون خلال سعيه الدؤوب طيلة حياته بحثاً عن العدالة ، فقد تعرض في مؤلفاته الستة والخمسين لمسائل الإشتراكية ، وأخوة بني الإنسان ، وتحسين النسل وتحديده ، وحرية الخطابة ، وخلود الروح ، وطبيعة المعرفة ، وطبيعة العالم المادي ، ومقاييس الأخلاق ، والملكية العامة ، ولكنه وهو يبحث عن كل هذه المشكلات كان يهدف إلى هدف واحد لا يحيد عنه وهو أن يرى البر والخير والصلاح موطدة الدعائم على الأرض .. يرى صرح الدولة وصلاح الفرد ، يرى دولة لا تقتل سقراط وإنما تختاره ملكاً ، وقد صور جنته الموعودة هذه في أعظم حلقات محاوراته (الجمهورية) أول يوتوبيا في تاريخ البشرية ، وفرغ أفلاطون من وضع حلمه الفلسفي العتيد وبناء تصميم مدينة الإنسان الأسمى .

2007/02/27

سقراط والحب والجمال



بقلم : ياسر حجاج
تنويه : عندما لم يسعن سوى بيتي لجأت مستغيثاً بمكتبتي ، لأفتش في أوراق كتبي المصفرة بعامل تدافع السنين ، لأجدد خلاياي الذهنية الميتة فكانت هذه المقالة ، التي تم إستقاؤها بتصرف من كتاب نزع غلافه ، وإنطمر تاريخ إصداره ، ولم تسعفن ذاكراتي بإسم مؤلفه ، وعليه فإني أعتذر مقدماً عن الإفادة بمصدر الموضوع وتاريخه وكاتبه ، وعليه لزم التنويه .
المكان : أثينا القديمة
الزمان : العام 407 ق.م
المناسبة : مأدبة أقامها الشاعر الأثيني أجاثون لأخلص أصدقائه إحتفالاً بفوزه بالجائزة الأولى لتأليف الدراما المسرحية .

بين أحاديث السمر وتبادل الأنخاب ، إنتقلت دفة النقاش إلى موضوع من أحب الموضوعات التي يحلو فيها الحديث للسامرين ، ألا  وهو
الحب ، فبدأ كلٌ يدلي برأيه فيه وفق فلسفته الخاصة .

قال فيدراس الحب هو أقدم الألهة وواحداً من أقواها وأعظمها نفوذاً ، إنه يخلق من الأفراد العاديين أبطالاً بدافع خجل العاشق من إظهار الجبن في حضرة محبوبته ، ثم أردف قائلاً  فلتعطوني جيشاً من العاشقين وأنا الكفيل بأن أغزو به العالم .

فقال المتحدث الثاني بوسانياس معلقاً .. هذا صحيح ، لكن ينبغي أن نُفرق بين الحب الأرضي والحب السماوي ، بين الجاذبية بين جسدين من ناحية ، والتجاوب بين روحين من ناحية أخرى ، فعندما تذبل زهرة الشباب يتخذ الحب الجسماني الزائل لنفسه أجنحة ويطير إلى غير رجعة ، أما حب الروح النبيل فهو باق ودائم .

وهنا يدخل الشاعر الفكه أريستوفان في الحديث فيأتي بنظرية جديدة في الحب حيث يقول ، أنه في سالف الزمان كان الجنسان متحدين في جسم واحد ، مستدير كالكرة ، وله أربع أياد وأربع أقدام ووجهان ، وكان هذا الجسم سريع الحركة إلى درجة خارقة ، حيث يستخدم أطرافه الثمانية في الدوران الدائب كالعجلة ، وكان قوته رهيبة وطموحه لا يحد ، فبدأ يدبر الخطة لمحاصرة السموات ومهاجمة الألهة !! لكن زيوس كبير آلهة جبال الأوليمب أحس بالخطر المقترب ففكر في أن يشطر ذلك الجنس إلى شطرين ، إلى رجل وإمرآة كي تضعف قوته وينشغل كل نصف بالسعي إلى نصفه الآخر ! وقد كان ، ومنذ ذلك اليوم صار يلهب كلا من الشطرين شوق مضن إلى الإندماج في شطره الثاني ، وهذا الشوق الذي يجذب كل من الجنسين نحو الجنس الآخر هو ما نسميه الحب .

وتلت هذه التفاسير الهزلية للحب أراء وتعريفات أخرى لطيفة ، حتي سُئل ضيف الشرف سقراط أن يدلي بدلوه في النقاش ، فقال بعد كل هذه الفصاحة لا أجد ما أقوله ، إذ كيف يتأتى لغبائي أن يحاجج مثل كل هذه الحكمة ؟ ، وبعد أن يلقى سقراط عن كاهله العبء بهذا التمهيد المنطوي على تواضع ساخر ، يستأنف حديثه لينسف بغبائه كل حكمة القوم ويمزق حججهم الواهية بسلسلة من أسئلته المحيرة التي لا جواب لها ، والتي كان أول من إبتدعها في المناقشة وبرع فيها ، فصارت اليوم أساساً من أسس التربية والتعليم ، وبعد أن يتم له هدم بنائهم المتداعي يشرع في التشييد والبناء على أنقاضه ، فيطلع على مجالسيه بهذه النظرية الجدية في الحب إذ يقول :

الحب هو جوع النفس البشرية للجمال الألهي ، فالعاشق لا يشتاق فقط إلى العثور على الجمال ، وإنما يشتاق أيضاً إلى خلقه ومواصلته ببذر بذرة الخلود في الجسد الفاني ، وهذا هو سر حب كل من الجنسين للأخر ، لرغبتهما في إعادة إنتاج نفسيهما من جديد ، وإطالة فسحة الزمن أمامهما إلى الأبد ، وهذا هو أيضاً سر حب الأباء لأطفالهم ، فكما يستمرىء جسم الوالد خلق طفله ، تستمرىء روحه متعة خلق روح جديدة ، تواصل بعدها حمل مشعل البحث الخالد عن الجمال .

ويستطرد سقراط متسائلاً ، ما هو هذا الجمال الذي نسعى جميعاً إلى إستمراره عن طريق الحب ؟ إنه الحكمة والفضيلة والشرف والشجاعة والعدل والإيمان ، وبالإختصار فإن الجمال هو الحق ، والحق يقود رأساً إلى الله .

وهنا يصفق الحضور للفيلسوف الحافي القدمين ، ويستمر برنامج سهرتهم حتى الصباح ، ثم يخرج سقراط ، ليبدأ جولته اليومية لنشر الحكمة بين أهل أثينا .


أبيض وأسود


ولدت أوائل حقبة الستينات ، وهي حقبة كثيراً ما أسميها الآن بحقبة الأبيض والأسود وهي تسمية تعود إلى أن هذه الفترة كانت فعلاً مطبوعة بهذين اللونين على المستوى الإنساني والحضاري بشكل عام ، فعلي المستوى الإنساني كانت القيم النبيلة والمشاعر السامية السائدة وأخلاق الفرسان تقف وبكثرة ملحوظة في الخانة البيضاء وبكل وضوح .. لا يقابلها سوى القليل ممن يصطف في الخانة المقابلة ... كانت الفواصل والحدود لم تزل قائمة .. فقد كان للعيب معني ، وللأصول والتقاليد معنى ، ولم يكن هناك ذلك التداخل غير المتناغم بين الألوان التي إستجدت بفعل الزمن والتطور الحضاري اللا إنساني في كثير من الأحيان والذي يطبع حياتنا هذه الآونة .. فمن الأشياء التي أؤمن بها أن كل تطور يطرأ على عمر إنسانيتنا لابد وأنه يأتي على حساب قيمة ما ، فمقابل ثورة التقدم التكنولوجي الهائلة الآن تآكلت في المقابل العديد من القيم والعادات والمنظومات الإجتماعية الرائعة ، ويبدو أن الأمر مرشح للتزايد حقبة بعد حقبة ، ولا يملك المرء الآن سوى النظر إلى هذه الحقبة نظرة اليائس المتحسر ليس إلا ، والشعور بالإغتراب عن الواقع .. وإذا حاولت ضرب أمثلة للتدليل على ما سبق فإن المقام قد يضيق بي ولكن لا بأس من التعرض لمثال منها بمفهوم مخالفة الواقع .. فأين مثلاً هي الآن الصالونات الأدبية التي هي ملتقي المفكرين والشعراء والأدباء والنقاد ؟ أين هي الآن المعارك الأدبية والفلسفية المستعرة بين أساطين الفكر على صفحات الجرائد والمجلات والتي كانت تصب في مصلحة القارىء فتصيب عقله ونفسه وروحه برزاذ من جميل المحاورة والمناظرة ؟ ، أين هي الصحافة الجادة التي كانت مصدر إشعاع وتنوير لجموع المواطنين ؟ أين هي سلاسل الكتب الذهبية شكلاً ومعنى والتي مثل إصدارها آنذاك نقلة ثقافية ووجبة دسمة للمتلهفين على المعرفة ؟ هذه هي الحقبة البيضاء وبوسعك الآن عقد مقارنات خفيفة وستتلمس ببساطة موضع الإصطفاف الذي نقف فيه الآن وبكل ألون الطيف ومن بينها بالتأكيد لون هذه العصر .. البمبي المسخسخ ... بالمناسبة عزيزي القارىء ... أنت لونك إيه ؟

2007/02/24

وجهة نظر


أرتدي نظارة طبية منذ أكثر من ربع قرن وبالتحديد عندما بدأت أول مراحل دراستي الثانوية ، ويوماً بعد يوم كان حمل العدسات يضغط بشدة على أنفي بفعل سماكتها المتزايدة ، ومرت الأيام وباتت نظاراتي هذا العبء الثقيل أحد أهم مكوناتي الشخصية ، بت أعتبرها عنواني وهويتي والمدخل لعالمي لاسيما إن إرتداؤها في ذلك الحين قد إرتبط بشدة بعادة القراءة الملازمة لي حتى الآن .. رويداً .. رويداً لم تعد نظارتي حلاً طبياً مذهلاً لضعف نظري الذي جاء نتيجة أساب وراثية كما قيل لي ، إنما كانت هي رداءي الحقيقي الذي بدونه أكون عارياً مجرداً من أهم أسلحتي وهو ثقتي بنفسي ... مرت الأعوام وإذا بوالدتي حيناً وزوجتي أحياناً ترجواني أن أقوم بإجراء عملية ما إصطلح على تسميه بالليزك ، كنت أراوغ في إجراء العملية متعذراً بعلل وأسباب ، وما كان أكثر أسبابي وعلاتي .. وفي أثناء زيارتي الأخيرة لمصر إذ أنني من طيورها المهاجرة أو المهجرة بفعل فاعل عقد الجميع العزم على قيامي إجرائها ... بعد يومين إثنين من وصولي تم مراجعة الطبيب .. ُحدد موعد ومكان العملية وتكاليفها بالطبع .. لا بأس .. أصر والدي وصهري على الحضور ... كما أصرت زوجتي على الحضور كذلك ربما لأنها ستكون شاهدة على عصر زوجها الجديد ... أًدخلت غرفة العمليات ، ألبسوني ثياباً خضرا .. تمددت على طاولة العملية كأي لوح مسند بلا حراك وكأنها عملية إنتقال إلى العالم الآخر ... بدا الطبيب بالعين اليمنى وبدا شعاع وخيوط وألوان آشعة الليزر تداعبني وأنا في صمت ذلك الذي لم ير في حياته سوى الأبيض والسود ، إنتهت العملية أخيراً بعد قرابة النصف ساعة .. خاطبني الطبيب متودداً بأنني سأشعر ببعض الحرقة الخفيفة بعدما يبدأ مفعول البنج في الزوال ، قلت له لا مشلكلة ... بعدها بقليل وبينما كنت في السيارة التي تقلني إلى المنزل فإذا بأشرس البراكين حمماً يقذف ألسنته في عيني ، كانت المعاناة شديدة ولولا بعض من رباطة الجأش لأجهشت بالبكاء ، ولم تنفعني تآوهاتي التي أصابت من في السيارة بالوجل حتى أنهم أوقفوا السيارة أكثر من مرة للبحث على صيدلية لجلب نوع من القطرة مهدئة للعين ، بعد أمداً رأيته طويلاً وصلت لمنزلي وعيناي لم تزلا مغمضتين رغماً عني فلم أكن لأتحمل رؤية الضوء ، زاد الألم ... ومن كثرة التعب أخلدت إلى فراشي حيث نمت بشكل ثلاثي الأبعاد بحيث لا يتمكن أحدهم من النوم بجواري أو حتى الجلوس إلى أطراف فراشي ... بعد منتصف الليل بساعتين ونصف نهضت من نومي وقد تبخر الألم ... ذهبت للجلوس قليلاً على مقاعد صالوننا العتيق وبلا نظارة لأول مرة منذ ربع قرن ، بد لي المشهد مختلفاً ، فالعوالم حولي غريبة ، كانت التفاصيل أكثر دقة ووضوحاً ، جلست زوجتى إلى جواري وبدأت تطالعني كأنها تريد تلمس أي شيء مني يفيد بنجاح العملية ، أول ما طالعت كان ساعة الحائط المحنطة منذ دهور ، رأيت العقارب بوضوح كامل حتى عقرب الثواني بدا لي نشطاً لطيفاً ويتحرك بإنسيابية ، وكأنني به أقول أني أراك .. أني أراك ، تبسمت لزوجتي وكانت إبتساماتي لها دليلاً إضافيا على نجاح العملية ... بعد يومين قمت بمراجعة الطبيب للإطمئناني ... فاجئني بخبر سعيد ... إذ قال لي أنني حيث قد جاوزت الأربعين فإن قوة نظري بعد العملية لن تعود كما أتوقع إلى النسبة التي أتوقعها وهي 6/6 ، ولكن ربما ستنخفض درجة أو درجتين بفعل السن وعوامل أخرى ، وأنني بناء على ذلك مضطر لإرتداء نظارة طبيبة خفيفة لاسيما عند قيادة السيارة أو إستخدام الحاسوب ، شعرت بالسعادة ، إذ لن يكون بوسع أحد حتى بعد العملية أن يجردني من نظارتي ، صحيح هي الأن خفيفة الوزن بفعل رقة عدساتها إلا أنني أحتفظت في النهاية بشكل من أشكال هويتي ، ورغم أنني في الواقع بوسعي الإستغناء عنها في كثير من الأعمال بفعل تحسن قوة الإبصار التي عادت لي بعد العملية إلا أنني في الغالب لا أفعل ولا أريد ... إذ يصعب على أي منا أن يتنازل هكذا وببساطة عن إسمه وهويته وعنوانه .

2007/02/22

مثقفو الشوارع




سور الأزبكية... نموذجاً


أثناء دراستي في الثانوية العامة بقسمها الأدبي كنت أدرس في المقرر الدراسي مسرحيات مختارة لأديب الإنجليزية الأشهر وليام شكسبير، وكان منهاعلى سبيل المثال مسرحيات هاملت ، ماكبث ، الملك لير ، ترويض النمرة ، وكنت في الواقع شديد الإنبهار بهذا الكاتب ، كما كنت محباً وقتها ولا أزال للغة الإنجليزية ، لذلك عقدت العزم أن تكون وجهتي الجامعية القادمة بالقاهرة حيث دراسة القانون بحقوق القاهرة ، وبدا لي أن أول مكان يجب زيارته هو أماكن المكتبات الشهيرة حيث عقدت العزم على إقتناء مسرحيات وليام شكسبير .

وبناء على نصيحة الأصدقاء يممت وجهي صوب سور الأزبكية وذلك لدواعي إقتصادية لا يجهلها من تردد على هذا المكان حيث الأسعار المعقولة للكتب كونها مستعملة في المقام الأول ، وكانت فكرتي المسبقة التي كونتها في مخيلتي أن أرباب مكتبات هذا المكان لا بد وأنهم على دراية تامة وإستيعاب كامل لما يبيعونه .. بعد تردد إخترت إحدى المكتبات حيث هناك المئات من الكتب المتراصة في غيرما نظام ومبعثرة على أرففها وبعضها الآخر ملقى على الأرض ومعقوداً بأربطة يبدو تمهيداً لأخذ مكانها ضمن صفوت لا نهائية من الكتب والمراجع بهذه المكتبة .. وأتذكر أنه كانت تفوح من المكان رائحة يعرفها جيداً أصحاب الكتب الملقاة على أرفف مكتباتهم والتي لم يتصفحوها منذ سنين .

وجدتني والبائع وجهاً لوجه .. كان كبير السن نوعاً ما وبدت ثيابه في حالة رثة ، تفوح منه رائحة أولئك الذين لم يعرفوا راحة أبداً طوال سني حياتهم .. ذو جبين مقطب وسيجارة تستحلفه أن يلفظها من بين شفتيه فلم يعد هناك ما يمكن تدخينه منها ، إلا أنه يأبى.. في هذا الجو الذي شاهدته وكان مفاجئاً لي جعلني في حالة إستعداء مع هذا البائع كونه لن يكون لائقاً من الناحية الثقافية والفكرية لمناقشة سلسة الكتب التي أنتوى شراءها ... بادرته متسائلاً بفوقية .. أعندك مسرحيات لشكسبير ؟ لم يلتفت إلي .. إستمر في عمله في تنظيم الكتب وأجابني بعد برهة بدت لي طويلة شيئاً ما .. أي مسرحية تريد ؟ إذن الرجل يعلم ما أريد .. لم أتحمس له ، فباغته أو هكذا إعتقدت .. أريد مسرحية هاملت .. فباغتني هو هذه المرة .. أتريد نسختها الكاملة أم المختصرة ؟ أسقط في يدي وشعرت بالضآلة أمامه حيث كنت أعتقد أن ما درسته من مسرحيات أثناء دراستي الثانوية هي النسخ الكاملة لتلك المسرحيات ولم أدرك أنها لم تكن سوى نسخ مختصرة أعدت لأغراض دراسية مبسطة ليس إلا .. وبسرعة لملمت ما تناثر من ثبات موقفي وحاولت إعادة التوازن فيما بيني وبينه .. قلت له بل النسخة الكاملة .

دون أن يلتفت إلي مده يده لأحد جحور مكتبته دون حتى أن ينظر إلى موضع جحره وجذب كتاباً من القطع الصغيرذو صفحات صفراء وقال لي هاك ما تطلب .. في عجالة قلبت صفحات المسرحية وكأني الخبير في شأن أدب شكسبير.. قطع علي صاحبنا تصفحي السريع ... أهذا هو المطلوب ؟ .. قلت بتواضع هذه المرة .. نعم هذا هو المطلوب .. أعطيته ثمن المسرحية وبينما هممت بالإنصراف وأدرت له ظهري عاجلني بالقول .. ما لم تكن على دراية تامة باللغة الإنجليزية فلن تكون هذه المسرحية مفيدة لك بأي حال .. سائلته سؤال من يود الإعتذار ويريد التعلم .. وكيف ذاك ؟ أجاب أن بعض من كلمات وعبارات المسرحية قد كتبت باللغة الإنجليزية القديمة حيث أن كثير من هذه الكلمات والعبارات لم تعد تستخدم في اللغة الإنجليزية الحديثة .. لم أجد جواباً .. كل ما فعلته أن ودعته وقمت بالإنصراف بعدما رمقته بنظرة بها الكثير من الود والإحترام والخجل أيضاً .

سورالسيدة ... نموذج ثان إنتقلت إلى سور آخر حيث النفيس من الكتب المستعملة قبالة مسجد السيدة زينب رضي الله عنها ، في هذه المرة المشهد كان مختلفاً لا من حيث وصف الكتب والمكتبات فالمشهد لا يختلف كثيراً عن مشهد سورالأزبكية .. في السيدة زينب كان الترام يخترق شارعه الرئيسي بحيث يتبدى للراكب به كافة المكتبات على الجانب الأيمن من الترام .. دخلت إحداها وبدا لي صاحبه من أول وهلة ذو أصول ريفية .. بدا ذلك من هندماه وتقاطيع وجهه وذكاء يشع من مقلتيه ، وهذه حاسة لدي في الواقع لا أكاد أخطأها .. دار الحديث حول الكتب التي أطلبها وكانت وقتها بعض من مؤلفات الراحل توفيق الحكيم .. بكل حنكة وحماسة جلب لي المطلوب ولم يفوته التعليق على هذه الكتب حيث كان يشعر بالإستغراب من الأستاذ توفيق الحكيم الذي لا يهتم بأناقة كتبه المطبوعة ، وكان هذا صحيحاً تماماً ، فقد كانت كتب هذا العلامة ُتطبع على أردىء الأنواع من الورق وكانت مغلافاتها الخارجية أشبه بالورق الذي يلف به اللحم لدى الجزارين ، ويقال أنه كان يفعل ذلك بداعي البخل الذي أشتهر به.. تبادلت أطراف الحديث مع الرجل وإذا به شاعر وله إجتهادات نثرية كان يسعى لنشرها بمجلة الهلال ذائعة الصيت في هذا الوقت .هذان نموذجان بمدينة واحدة لمثقفي الأرصفة وهناك العديد بالتأكيد من هذين الصنفين في مدينة بحجم القاهرة ، وتذكرت على التو نوع آخر من هؤلاء المثقفين وربما ليسوا أقل شأناً منهم وهم بائعة الجرائد والمجلات الذين كانوا في السابق يجوبون الشوارع منادين على بضاعتهم الساخنة التي يحملونها بين أيديهم المتعبة حيث كان هذا الصراخ المتناغم .. أهرام .. أخبار .. جمهورية.. آخر ساعة.. الكواكب..المصور.. ومنهم من كان في قديم العهد يدلل أكثر فأكثر على نفاسة ما يحمله من أخبار فيصيح .. إقرأ سقوط حكومة الوفد .. إغتيال النقراشي باشا .
حقاً كانت أيام .. وهذه أيام

شعرات بيض

منذ عدة سنوات وقعت زوجتي على كشف أو هكذا إعتبرته عندما قفزت وصاحت وقالت شعرة بيضاء ... شعرة بيضاء ، فتساءلت متخابثاً وكأني لا أعلم .. أين ؟ قالت إنها في رأسك .. ثم أردفت قائلة والله وكبرت يا أبو العيال ، فمازحتها متغاضباً لا .. لا لست أنا هذا الرجل .. أردفت لا تكابر ، إليك المرآة فتيقن بأم عينيك فقلت متفلسفاً بعد معاينة أولية .. هذه شعرة يغالبها سواد ، فهي إلى السواد أقرب منها إلى البياض ، ولم ينفع هذا المنطق بالطبع فقد مرت الأعوام فإذا بالشعرة البيضاء وقد أصبح لها أخوات وعمات وخالات أخذن على إستحياء إلى مفرقي رأسي سبيلاً .. أهو الشيب إذن ؟ لا بأس .. وماذا في ذلك ؟ ولم تفتأ زوجتي تخاطبني متوددة بقولها يا شباب الأربعين ربما على سبيل التعزية

وشعراً يقول الفرزدق في ذلك
  • ويقول كيف يميل مثلك للظبا وعليك من عظم المشيب عذار
  • والشيب ينقص في الشباب كأنه ليل يصيح بعارضيه نهار

ومر رجل به شيب بإمرأة عجيبة الجمال فقال : يا هذه إن كان لك زوج فبارك الله لك فيه ، وإلا فأعلمينا فقالت كأنك تخطبني ، قال نعم ، فقالت إن في عيباً ، قال وما هو ، قالت شيب في رأسي ، فثني عنان دابته مولياً عنها ، فقالت على رسلك فلا والله ما بلغت عشرين سنة ، ولا رأيت في رأسي شعرة بيضاء ، ولكني أحببت أن أعلمك أني أكره منك ما تكره مني فأنشد يقول

  • رأين الغواني الشيب لاح بمفرقي فأعرضن عني بالخدود النواضر
  • فقهقهت ثم قالت من تعجبها تكاثر الغش حتى صار في الشعر
وقال آخر
  • تبسم الشيب بوجه الفتي يوجب سح الدمع من جفنه
  • وكيف لا يبكي على نفسه من ضحك الشيب على ذقنه

وقد قيل في شأن الكبر والشيب كان الرجل فيمن قبلكم لا يحتلم حتى يبلغ ثمانين سنة ، وقال إبن وهب إن أصغر من مات من ولد آدم كان عمره مائتي سنة ، فبكته الأنس والجن لحداثة سنه ، وقال الشعبي الشيب علة لا يعاد منها ومصيبة لا يعزى عليها ، ويقول إبن عباس رضي الله عنهما من أتى عليه أربعون سنة ثم لم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار ، ويقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى وعزتي وجلالي وفاقة خلقي لي إني لأستحي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام أن أعذبهما ، ثم بكى فقيل له ما يبكيك يا رسول الله قال أبكي ممن يستحي الله منه وهو لا يستحي من الله

أسال الله لي ولكم حسن الخاتمة

2007/02/21

بناتي هن حسناتي


لقد أنعم الله سبحانه وتعالى علي بالبنين والبنات ، ولما شرعت في إنشاء هذه المدونة إخترت لها تسمية ( البنات حسنات ) تيمناً ببناتي وربما لإعتبارات الكثرة الحسابية فمعدل البنات إلى الأولاد عندي هو 3 إلى 2 ، فكان من الطبيعي أن تسمي هذه المدونة نسبة إليهن ، إلا أنني أدركت بعد ذلك مدى أحقيتهن وجدارتهن بهذا الأسم لا من حيث معدلات عددية جامدة وإنما أيضاً من حيث تمتعهن بالشيم والطباع الأنثوية فهن الحنونات الرحيمات الحبيبات ، كما أنني أذيل توقيع مقالاتي في هذه المدونة بأحب الألقاب إلى نفسي وهو ( أبو البنات ) ، وعندما أود السؤال عن حالهن فإنى لا أستخدم سوى عبارة كيف هن حسناتي ؟ ولا أنسى عندما رزقت بالبنت الأولى منذ 9 سنوات كيف أنها وبمجرد سماعها رنين بوق سيارتي إذاناً بمقدمي للمنزل كانت تلتف وترقص وتدور على الأرض إذ كانت تحبو في سنيها الأولى ثم تقوم بالتشبث بقدمي محاولة تسلق إياها لكي أحملها بين يدي ، ومن فرط حبي لها ولأختيها فإنني شرعت في كتابة عدة مقالات أو تدوينات عن البنات والنساء العظيمات الجليلات في العصور الغابرة مصنفة في هذه المدونة تحت عنوان ( بنات زمان ) وذلك ربما للتدليل على ما آلت إليه أحوال البنات في هذا العصر " كفانا الله وإياكم شر الفتن " ، ثم أني كثيراً ما أذكر بعض أبيات شعرية قديمة لأحدهم الذي كان يبدو محباً إبنته حباً أخرجه حتى عن طور الإعتدال فتمنى حتى موت إبنته إذ يقول :
  • أحببت بنيتي وودت أني دفنت بنيتي في قاع لحد
  • فإن زوجتها رجلاً فقيراً أراها عنده والهم عندي
  • وما بي أن تهون علي لكن مخافة أن تذوق الذل بعدي
  • وإن زوجتها رجلاً غنياً فيلطم خدها ويسب جدي
  • سألت الله يأخذها قريباً ولو كانت أحب الناس عندي

وكانت زوجة لأعرابي تدلل إبنتها نكاية في ضرتها التي كانت تعيرها بأنها لم تنجب صبياً مثلها فأنشدت تقول

  • وما علي أن تكون جارية تغسل رأسي وتكون الفالية
  • وترفع الساقط من خماريه حتى إذا ما بلغت ثمانية
  • أزرتها بنقبة يمانية أنكحتها مروان أو معاوية
  • أصهار صدق ومهور غالية

صدق القائل ...البنات حسنات ، والبنون نعمة ، والحسنات يثاب عليها ، والنعمة يسأل عنها

2007/02/19

هند إبنة النعمان

ًُُُحكي أن هند إبنة النعمان كانت أحسن أهل زمانها فوصف للحجاج حسنها فأنفـذ إليهـا يخطبها وبذل لها مالاً جزيلاً وتزوج بها وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم ودخل بها ثم إنها إنحدرت معه إلى بلدة أبيها المعرة وكانت هند فصيحة أديبة فأقام بها الحجاج بالمعرة مدة طويلة ، ثم إن الحجاج رحل بها إلى العراق فأقامت معه مدة طويلة ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر في المرآة وهي تقول :-
  • وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل
  • فإن ولدت فحلاً فلله درها وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل
فإنصرف الحجاج راجعاً ولم يدخل عليها ولم تكن علمت به ، فأراد الحجاج طلاقها فأنفذ إليها عبد الله بن طاهر وأنفذ لها معه مائتي ألف درهم ، وهي التي كانت لها عليه ، وقال يا إبن طاهر طلقها بكلمتين ولا تزد عليهما ، فدخل عبد الله بن طاهر عليها فقال يقول لك أبو محمد الحجاج كنت فبنت أي أصبحت طالقاً وهذه المائتا ألف درهم التي كانت لك قبله ، فقالت إعلم يا إبن طاهر إنا والله كنا فما حمدنا ، وبنا فما ندمنا ، وهذه المائتا ألف درهم بشارة لك بخلاصي من كلب بني ثقيف ، ثم بعد ذلك بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان خبرها ووصف له جمالها فأرسل إليها يخطبها فأرسلت له كتاباً تقول فيه بعد الثتاء عليه ، إعلم يا أمير المؤمنين أن الإناء ولغ فيه الكلب ، فلما قرأ عبد الملك الكتاب ضحك من قولها وكتب إليها يقول إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب ، فإغسلي الإناء يحل الإستعمال ، فلما قرأت كتاب أمير المؤمنين لم يمكنها المخالفة فكتبت إليه بعد الثناء عليه ، يا أمير المؤمنين والله لا أحل العقد إلا بشرط فإن قلت ما هو الشرط قلت أن يقود الحجاج محملي من المعرة إلى بلدك التي أنت فيها ، ويكون ماشياً حافياً بحليته التي كان فيها أولاً ، فلما قرأ عبد الملك ذلك الكتاب ضحك ضحكاً شديداً وأنفذ إلى الحجاج وأمره بذلك ، ، فلما قرأ الحجاج رسالة أمير المؤمنين أجاب وإمتثل الأمر ولم يخالف ، وأنفذ إلى هند يأمرها بالتجهيز ، فتجهزت وسار الحجاج في موكبه حتى وصل المعرة بلد هند في محمل الزفاف وركب حولها جواريها وخدمها وأخذ الحجاج بزمام البعير يقوده ويسير به ، فجعلت هند تتواغد عليه وتضحك مع الهيفاء دايتها ثم إنها قالت للهيفاء يا داية إكشفي لي طرف المحمل فكشفته فوقع وجهها في وجه الحجاج فضحكت عليه فأنشأ يقول :
  • فإن تضحكي مني فيا طول ليلة ..... تركتك فيها كالقباء المفرج
فأجابته هند وهي تقول
  • وما نبالي إذا أرواحنا سلمت بما فقدناه من مال ومن نشب
  • فالمال مكتسب والعز مرتجع إذا النفوس وقاها الله من العطب
ولم تزل كذلك تضحك وتلعب إلى أن قربت من بلدة الخليفة ، فرمت بدينار على الأرض ونادت يا جمال إنه قد سقط منا درهم فإرفعه إلينا ، فنظر الحجاج إلى الأرض فلم يجد إلا ديناراً ، فقال إنما هو دينار ، فقالت بل هو درهم ، قال بل دينار ، فقالت الحمد لله سقط منا درهم فعوضنا الله ديناراً فخجل الحجاج وسكت ولم يرد جوابا ، ثم دخل بها على عبد الملك بن مروان فتزوج بها وكان من أمرها ما كان .. من كتاب المستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين الأبشيهي

2007/02/18

سحرة فرعون


لا يولد الفساد عبثاً ولا مصادفة ، ولا ينشأ الإستبداد دونما تربة خصبة وأجواء مواتية إنما الحصاد دائماً وأبداً نتاج البذرة ، فكيفما بذرت ستحصد ، فهذه سنة مشاهدة وطريقة مجربة عبر العصور ، وزراع البذور ومتعهدو النبتة بالرعاية متنوعون بتنوع الغراث والتربة والأجواء ، فلا يولد أحدنا فجأة هكذا فاسداً مستبداً من عدم وأنا لا أصدق أنه توجد إستعدادت فطرية للشر لدي بني البشر إنما هناك دائماً من الأدوات ما يعين على التربية التي تكفل فساد النشأة وخبث الطوية ، وإنك إن تلمست سير العتاة والجبارين في الأرض لوجدت أصنافاً وألواناً من الصناع المهرة لأدوات ظلمهم وغيهم وطغيانهم ، وإذا يممت وجهك صوب ألوف من السنين قد خلت لوجدت ذات السيرة ونفس المشهد وإذا تحولت بوجهك شطر العصور اللاحقة وحتى الآن لوجدت ذات السيرة ونفس المشهد كذلك .

فمثلاً سحرة فرعون - قبل توبتهم - كانوا واجهة أساسية لنظامه وأداة لبطشه وإرهابه وورقته التي يخبئها لأوقاته العصيبة وملماته العظيمة فيذودون عنه ويدفعون عنه التهم وإن لهم لأجراً وإنهم لمن المقربين يعادون من عادى ويهادنون من هادن ، وهكذا هي سيرة الطغيان في كل آن ، أما فراعين زماننا وما أكثرهم فقد إستوعبوا عن جهل درس الفرعون الأكبر فملئوا بلاط قصورهم بهاماناتهم وسحرتهم وأولياء ظلمهم القوامين على الكذب المنتصبين للدفاع عن الباطل حتى ليخيل للمرء منا أنه لحق وأبلغ من حقيقة الشمس في رابعة النهار .

وسحرة هذا الزمان لم يتبدلوا إلا بتبدل الهيئة والمكان والزمان فحبالهم التي تسعى غابت عن المشهد ولم يعد لها وجود ، ولربما أدركوا أنها باتت وسيلة بدائية لم تعد تناسب الكذب الجديد والنفاق المستحدث فإستبدلوها بأقلام وقراطيس هي أشد وطئاً وأفسد قيلا ، وسحرة زماننا هم المنافحون عن كل ظلم والمستميتون في الدفاع عن كل جريرة ، والمبررون لكل جريمة ، والمعالجون لبشرة النظم الكالحة بمساحيق مصطنعة تخفي ولو إلى حين تجاعيده المرة وترهل جسده وشيب عوارضه وإنحناء قامته .

وبات السحرة من كل شكل ولون فمنهم شعراء النظام النواجب وأصحاب قوافيه الكواذب ومتعهدو غسيل الأدمغة ، وهنالك القائمون على أمن وسلامة وتوطيد أعمدة النظام وهم قبضته وعصاه الغليظة التي يلوح بها حيناً ويضرب بها أحايين كثيرة ، وهناك المشرعون للقوانين سيئة السمعة خاملة الذكر ، وهناك وجهاء القوم من المنتفعين المتنفذين أرباب المصالح الخاصة والمشبوهة وأكلة السحت وأموال الناس بالباطل ، ويمتلأ البلاط بأمثال هؤلاء وأولئك وغيرهم من أئمة الإفك والبهتان ، الذين ندعوا أن يتوبوا ويثوبوا إلى رشدهم كما فعل سحرة فرعون

2007/02/14

هوجو شافيز .. ذلك الرجل

صباح هذا اليوم سمعت تقريراً خفيفاً بإذاعة البي بي سي البريطانية ( القسم العربي ) مفاده قيام الرئيس الفنزويلي / هوجو شافيز بخوض تجربة قديمة جديدة حيث أنه سيطل على مواطنيه صباح كل يوم عن طريق بث حي لمدة تسعون دقيقة لا أذكر الآن إن كان إذاعياً أم تليفزيونياً حيث سيتحدث من خلاله عن سياسة حكومته والشأن الفنزويلي العام .

إلى هنا والخبر قد يبدو عادياً وإنما المفارقة تكمن في أن شافيز سيتلقي مكالمات على الهواء مباشرة من مواطنيه ممن لديهم مشاكل أو صعوبات ما حيث ُيفترض به أن يقوم بالعمل على حلها على الهواء بالتنسيق مع الجهات المعنية بالدولة ، هذه الخبر الذي قد يمر سريعاً قد أصابني بدهشة حقيقية مردها إلى أنني ربما أنتمي إلى عوالم لا تعترف بالتواصل ما بين الحاكم والمحكوم من أي نوع إلا من خلال قوانين سيئة السمعة وتشريعات مكبلة للحرية وغيرها ، وبالتالي فإن دهشتي مازالت قائمة على أساس أن هذا التواصل هو من قبيل الترف الفكري الذي لا نقدر بحكم إنتمائنا الجغرافي على مجرد التفكير به في أكثر أحلامنا جمالاً .

وقد يقول قائل أن الطبيعة العملية لمهام وإرتباطات الحكام تحول دون هذا التواصل هكذا على الهواء مباشرة إذ أن وزارات الدولة وأجهزتها المعنية لها من الصلاحيات والإختصاصات ما يعينها على حل مشاكل المواطنين والسهر على كافة أحوالهم ، وبالتالي فإنه أمر كهذا يدخل في صميم عملها وأنه لا حاجة عملية لإقحام الحاكم في مثل هذه الأمور الذي يتعين عليه التفرغ لإدارة شئون البلاد العليا ، وقد يبدو هذه الأمر صحيحاً ومنطقياً من الناحية العملية ولكن ذلك مرهون بكون الأجهزة التنفيذية بالدولة تقوم بمهامها خير قيام وبالشكل الذي ينص عليه القانون ، ولكن في ظل الترهل الإداري ، وغياب الضمير ، وإنعدام روح التحلي بالمسئولية فإن المواطن سيكون عرضة لا محالة لأنواء الفساد ورياح الرغبة في اللا إنتماء لبلده .

كما أن هناك سنة حميدة متبعة أيضاً في الولايات المتحدة تتمثل في الخطاب الأسبوعي القصير الذي يلقيه الرئيس على مسامع ماوطنيه وبشكل منتظم والذي يعالج كافة القضايا التي تشغل بالهم هناك وبالتالي يشعر المواطنون على إختلاف همومهم وإنتمائتهم الثقافية بأن رئيسهم قريب منهم ومن مشاكلهم ويتناولها ببحثه أولاً بأول ويقترح لها حلولاً ، أما خطابات حكامنا فحدث ولا حرج فهي خطابات تاريخية كما توصف دائما ولا أدرى ما سر هذا الوصف ؟ وهل يرجع الأصل في تسميتها إلى أنها تقال عادة في مناسبات موسمية وقومية أم لأنها تحوى من العظات وآيات البيان وحلول المعضلات ما لم يأت به الأوائل ؟ هذا ناهيك بالطبع عن كونها خطابات مملة سمجة لا تكسو عارياً ولا تطعم جائعاً ولا تؤمن خائفا ، على كل حال فإن تجربة الرئيس شافيز هذه هي تجربة فريدة حقاً لا نملك حيالها سوى أن نهنئه عليها ونهنىء شعبه بها ولا عزاء لأمثالنا ، فلسنا من سكان أمريكا اللاتينية على الأقل حتى الآن .

2007/02/13

حماس وفتح بمكة

يبدو أن حركتي فتح وحماس كانتا بحاجة لنفحة روحية بجوار بيت الله العتيق بناء على دعوة أو إستدعاء عاجل من العاهل السعودي لوقف الإقتتال الداخلي فيما بينهما والإتفاق على كلمة سواء ولو لمرة واحدة فيما بينهما ، والغريب في الأمر هو السرعة العجيبة التي أنتجت إتفاقاً وصف بالتاريخي لا يزيد في بنوده عن ذات البنود التي كانت محل حراك ونقاش سياسي لأشهر طويلة بين كافة الفصائل الفلسطينية ذاتها قبل هذه الدعوة وهو الحراك الذي لم ينتج سوى تصفية متبادلة لعناصر الطرفين وإتهامات متبادلة بالإرهاب والتخوين ، إذن فما هو الفارق ؟ وما هو السر في الإختلاف بينهما بأولى القبلتين لأشهر طويلة ثم معاودة إتفاقهما بثاني القبلتين في أيام معدودات ؟ هل هو عبق المكان ورمزيته في نفوس المسلمين والذي تتضاءل بحضرته كل الخلافات وتذوب بجواره كافة الأزمات فهوت أفئدة الجميع إليه ؟ الأكثر من ذلك أن مكة لم تكن فقط شاهدة على هذا الإتفاق بل كانت حاضرة كذلك لصدور أمر رئاسي من رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن لرئيس وزرائه إسماعيل هنية بإعادة تشكيل الوزارة ، وربما ولولا الحرج لكان تم إستدعاء الوزراء الجدد لحلف اليمين هناك أيضاً ، ودعوة المجلس التشريعي الفلسطيني برمته للمصادقة على حكومة الوحدة الجديدة ، على كل حال فكل دعوة للوئام بين الفلسطينيين هو دعوة محمودة ومسلك جدير بالتقدير من أصحاب الضيافة الذين لا نشك بنواياهم فالله أعلم بالسرائر .

2007/02/10

شيخ القبيلة


إن من مقاييس الحكم على نظام سياسي ما بأنه نظام حي يعيش بين أحياء من عدمه يتجلى في إنتهاجه لمبدأ تداول السلطة لا توريثها ، وتوزيعه العادل لثروات أمته لا إنتهابها ، ومساواته في الحقوق لا إنتقاصها ، وإحترامه لأحكام القضاء لا العصف بها وصونه ورعايته لكرامة الإنسان لا إهدارها ، وبالتالي فإن أي نظام سياسي لا تتوافر بها هذه المقاييس أو المقومات سيكون من السخافة بمكان أن نصنفه بأنه نظام محسوب ضمن أنظمة الحكم الديمقراطية في العالم المعاصر ، وإن كنا بالطبع سنجد له تصنيفاً منطقياً ومستحقاً ضمن قائمة أنظمة الحكم البالية والأمم المترهلة ، ويا أسفاه ... فأننا نحن العرب عموماً ( عاربة ومستعربة ) ومع مطلع العام السابع من الألفية الثالثة مازلنا محكومين لا بهذه المقاييس وإنما بمقياس أو نظرية شيخ القبيلة المستبد الذي تؤول إليه مقاليد الأمور كلها كبيرها وصغيرها ، يحكم فينا بحكمه ويرينا ما يرى ، ولا تملك رعيته سوى أن تقول له سمعاً وطاعة ولو جلد ظهورها ، وإنتهك أعراضها وشردها وهجرها ، وسفه أحلامها وإستخف بكرامتها وإستهان بآدميتها أو حتى أطاح برؤس العقلاء فيها . ونظرية شيخ القبيلة المستبد إن صح العمل بها في إطار مجتمع صغير يترابط أعضائه بعرى القبيلة ومصالحها العشائرية الشخصية الضيقة التي لا ترى أبعد من حدود مضاربها ، ومرابط خيامها ، وأبار مياه نياقها ، ووديانها التي تسرح فيها ليلى العامرية فيمطرونها بأشعارهم ، فإن الأمر يصبح جد مرعب إن جرى تعميم هذه النظرية الخرقاء على أمة بكل مكوناتها الثقافية ومخزونها الحضاري العميق وهو الأمر الحاصل بفعل فاعل في بلداننا العربية والإسلامية وحتى الآن مع سبق الإصرار إلا من رحم ربك ، فقد مرت السنون وتعاقبت فينا القرون وبقى الشيخ المأفون في مكانه لا يبارحه ، أينما وليت وجهك فهو في مكان ما ، فهنا شيخ مؤيد وهناك شيخ مسدد ، ومابين تأييد هذا وتسديد ذاك تدور رحى الطغيان فتطحن بلا هوادة أي أمل في التغيير والخلاص ، فمشايخ قبائلنا إنقلبوا على كل قيمة وأداروا ظهورهم للقبيلة ، فهم قد خلعوا عباءات أسلافهم وقلموا أظافرهم وهذبوا من لحاهم وهجروا خيامهم وباتوا أقل شرفاً وأضعف نخوة ، بل أن مشايخ قبائلنا باتوا حماة لأعراضاً غير أعراضنا ، ولم تعد بطون القبيلة وأفخاذها من أولوياتهم ، وغدا البيت الأبيض محل طوافهم ، ولم تعد أي من ليلانا ملهمة لأشعارهم ، وتعاقبوا فينا كما الليل والنهار، ويبدو أن الأمر مرشح للتعاقب أحقاباً تلوها أحقاب ، فإذا مات منهم شيخ قام ولي إثمه أو من هو من عصبته وعصابته مطالباً بلواء القبيلة وسيف القبيلة وقطيع القبيلة ونساء القبيلة ، وهاهم المتملقين وألسنته التي تنطق بالزور على باب خيمته ينتظرون عطاياه المحرمة مقابل ألقاب يخلعونها عليه ، فالباب أرباب القصائد العصماء وأصحاب المقالات الكاذبة حيث سيُكتب التاريخ برؤية جديدة وبرائحة جديدة وبلون جديد ، فبشيخنا سيبدأ التاريخ ولعله به ينتهي ، ومن فيه ستقطر بل ستنساب ينابيع الحكمة حيث لا حكمة ، وسينظر نظر اللا عبرة واللا فكرة بينما فتيان القبيلة وشبابها وأصحاب الرشد فيها ينطمرون جيلاً بعد جيل والشيخ العبوث مازال يدير مسبحته حبة بعد حبة مسبحاً لشيطانه وساجداً لأوثانه ولا ينسى لدى إنفلات روحه أن يوصي بالقبيلة شر أنجاله أو أقرانه ... وما زالت العجلة تدور وتدور وتدور.. وللحديث بقية بل ألف بقية

2007/02/06

دساتيرنا ودساتيرهم

في الأمم المتقدمة والتي قطعت أشواطاً طويلة في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة تعتبر الدساتير فيها حصن الأمان الذي يلوذ به وإليه كل من الحاكم والمحكوم على السواء إن أراد طرف ما منهما أن يجور على حقوق ومكتسبات الطرف الآخر التي إكتسبها بموجب هذا الدستورالذي يعد منهجاً للحياة على أرض هذه الأمة ، وبقدر رقي الدستور ومراعاته للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين تستطيع أن تحكم على مكونات هذه الأمة من حيث كونها أمة عاملة متحضرة أم أنها أمة خاملة متخلفة ، إلا أن هذه القاعدة العامة لها العديد من الإستثناءات فليس بالضرورة أن تكون نصوص دساتير بعض الأمم مرآة حقيقية وصورة صادقة للواقع المعاش لشعوب هذه الأمم ذلك أن أكثر الأمم ديكتاتورية والتي لها سجل غير ناصع في مجال حقوق الإنسان إن إطلعنا على نصوص دساتيرها فإننا سنفاجىء بأنها عقدت لصيانة حقوق المواطنين فيها أبواباً وأبواب ورتبت لهم من الضمانات القانونية لصيانة هذه الحقوق الشيء الكثير إلا أن هذا كله لا يقابله أي تطبيق عملي على أرض الواقع . ( إذن أين يقع الخلل ؟؟ ) حسب إعتقادي المتواضع يقع الخلل نتيجة الهوة الواسعة التي تفصل بين نظرية النصوص والممارسة العملية لما تتضمنه هذه النصوص من حقوق وحريات ، بمعنى آخر فإننا لن يكون بوسعنا حيال مواطنين جردوا من حقوقهم طيلة حياتهم ، وأنتهكت كرامتهم وكرامات عوائلهم وجعلوا أسارى دائمين للخوف من المجهول ومن بطش السلطة فإن هؤلاء المواطنين إذا وضعتهم في بيئة لأكثرالأمم ديمقراطية ومراعاة لحقوق الإنسان فإنهم لن يستسيغوا العيش وفق النظام الجديد بسهولة وهم معذورون على كل الحال ، فهم لم يتدرجوا بل لم يمارسوا ديمقراطية في مجتمعاتهم ويرون أن هذه الديمقراطية ليس إلا ترفاً فكرياً لا يقدرون على تحمل تبعاته ، وربما يفضلون العيش وفق ما ألفوه أحقاباً على العيش وفق نظم راقية لم يعهدوها ... إذن هي الممارسة ولا شيء سوى الممارسة ، فهناك فارق كبير بين أمرين ( إكتساب الحق – وممارسة هذا الحق ) ، ويحضرني هنا مثالان للتدليل على ما أقول المثال الأول أنه وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كان سكان إحدى القرى أو المدن ببريطانيا والقريبة من أحد المطارات العسكرية يشتكون ويحتجون من ضجيج حركة الطائرات المشاركة في العمليات الحربية إقلاعاً وهبوطاً طوال الوقت الأمر الذي نغص عليهم معيشتهم وهو ما دفعهم إلى رفع دعوى قضائية بطلب إبعاد إقلاع وهبوط الطائرات من هذا المطار تحقيقاً للهدوء الذي ينشدونه ، والغريب في الأمر أن السلطات القضائية قد أجابتهم لطلبهم وقضت لصالحهم وطلبت إبعاد هذه الطائرات العسكرية من العمل في هذا المطار ، وهنا إنتفضت القيادة العسكرية مطالبة بعدم تنفيذ هذا الحكم بدعوى أن البلاد في حالة حرب ضروس إذ ينبغي والحال كذلك أن يتنازل المواطنون عن بعض من حقوقهم الأساسية لصالح المجهود الحربي للبلاد ، ورفع الأمر وقتها لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل ذو النشأة العسكرية أصلاً حيث طالب بتنفيذ الحكم كما هو وقال قولة شهيرة لها دلالة عميقة وهي أنه من الخير لبريطانيا أن تخسر الحرب من أن يقال عنها أنها قد خالفت حكماً قضائياً ، أما المثال الثاني الذي لا يقل دلالة عن المثال الأول فقد وقع في الولايات المتحدة الأمريكية حيث قام بعض من طلبة إحدى الجامعات هناك بحرق العلم الأمريكي كنوع من التعبير عن سخطهم من واقعة لا أذكر تفاصيلها الآن حيث تم رفع أمرهم إلى السلطات القضائية وجرى حراك قانوني كبير وقتها حول مسلك هؤلاء الطلاب ما بين مؤيد ومعارض له حتى وصل الأمر على ما أذكر إلى المحكمة العليا التي أرست مبدأ في غاية الأهمية وهو أن قيام هؤلاء الطلاب بحرق العلم الأمريكي ما هو إلا وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي المكفول قانوناً بنص الدستور. أرأيتم كيف تمارس الحقوق وكيف يتم التمسك بها ولعل أختم بعبارة الزعيم الخالد سعد زغلول عندما قال الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة .... وللحديث بقية .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة