ومن البداية تعلق أفلاطون بسقراط وإنضم إلى حلقة مريديه وحوارييه النابهين الذين كانوا يتبعونه في شوارع أثينا أينما سار مثل ظله ويصغون إلى مناقشاته وأرائه وأسئلته العسيرة التي لا تنتهي .. ما هي الفضيلة ؟ ما هي الشجاعة ؟ ما هي الأمانة ؟ ما هي التقوى ؟ ما هي الديمقراطية ؟ ما هو العدل ؟ ما هو الحق .. ما هو .. ما هو .. وماذا تعرف عن ... ؟
وبهذه الإستجوابات اللحوحة الفاحصة رفع سقراط من أمام أعين الأثينيين مرآة الغرور ووضع لهم مكانها مرآة الحقيقة فأفزعتهم النتيجة ، فإنهم لم يروا في المرآة صورة آدميين ، بل صورة وحوش .. حتى إنتهى الأمر بهم إلى محاكمته بتهمة إفساد الشباب ثم الحكم بإعدامه وأفلح بعض تلاميذ سقراط ومنهم أفلاطون في رشوة حارس السجن كي يتيح لسجينه فرصة الهرب ، وطالبوا معلمهم بإنتهاز الفرصة المواتية لكنه رفض في إباء .. لقد حلت ساعته ، فليواجهها بشجاعته المألوفة التي طالما واجه بها الموت في شتى مراحل حياته ، إذ من الخير له أن يموت الآن وهو بكامل قوته من أن يعيش حتى تدهمه الشيخوخة والعجز ، وهو الذي لا يطيق الحياة بغير قوة وصحة ونشاط ، والذي ينفرد دون مواطنيه بالقدرة الخارقة على السير حافي القدمين فوق الجليد في زمهرير الشتاء .
وعندما مات سقراط رأى أفلاطون أنه من الأوفق له أن يغادر أثينا ، إذ أنه جهوده لإنقاذ سقراط جعلته في نظر السلطات رجلاً موصوماً ، فبدأ رحلة حول العالم الذي كان معروفاً وقتئذ .. حيث زار إيطاليا وصقلية ، حيث صدمته حياة الشهوات والمجون التي يحياها أهل هذه البلاد ، ومنها عرج على مصر وفلسطين ، فلما عاد إلى أثينا بعد إثني عشر عاما كان قد إختزن في ذهنه حكمة العالم القديم بأسرها ، فإفتتح مدرسة للفلسفة في حدائق أثينا الجميلة وسط إطار من التماثيل والأشجار والمعابد الثرية ، وأطلق عليها الأكاديمية ، وكان من تلاميذه فيها الفيلسوف أرسطو ، وحمل أفلاطون على عاتقه أن ينشر تعاليم أستاذه الأعظم سقراط القائمة في أساسها على فكرة تقديس العدالة .
وفي سبيل توكيد معنى العدالة كتب أفلاطون سلسلة محاوراته الخالدة التي قال فيها المفكر إمرسون فلنحرق جميع المكتبات فإن كل محتوياتها يتضمنها هذا الكتاب ، وفي الواقع أنه يندر أن يوجد موضوع إنساني لم يتعرض له أفلاطون خلال سعيه الدؤوب طيلة حياته بحثاً عن العدالة ، فقد تعرض في مؤلفاته الستة والخمسين لمسائل الإشتراكية ، وأخوة بني الإنسان ، وتحسين النسل وتحديده ، وحرية الخطابة ، وخلود الروح ، وطبيعة المعرفة ، وطبيعة العالم المادي ، ومقاييس الأخلاق ، والملكية العامة ، ولكنه وهو يبحث عن كل هذه المشكلات كان يهدف إلى هدف واحد لا يحيد عنه وهو أن يرى البر والخير والصلاح موطدة الدعائم على الأرض .. يرى صرح الدولة وصلاح الفرد ، يرى دولة لا تقتل سقراط وإنما تختاره ملكاً ، وقد صور جنته الموعودة هذه في أعظم حلقات محاوراته (الجمهورية) أول يوتوبيا في تاريخ البشرية ، وفرغ أفلاطون من وضع حلمه الفلسفي العتيد وبناء تصميم مدينة الإنسان الأسمى .