2007/02/22

مثقفو الشوارع




سور الأزبكية... نموذجاً


أثناء دراستي في الثانوية العامة بقسمها الأدبي كنت أدرس في المقرر الدراسي مسرحيات مختارة لأديب الإنجليزية الأشهر وليام شكسبير، وكان منهاعلى سبيل المثال مسرحيات هاملت ، ماكبث ، الملك لير ، ترويض النمرة ، وكنت في الواقع شديد الإنبهار بهذا الكاتب ، كما كنت محباً وقتها ولا أزال للغة الإنجليزية ، لذلك عقدت العزم أن تكون وجهتي الجامعية القادمة بالقاهرة حيث دراسة القانون بحقوق القاهرة ، وبدا لي أن أول مكان يجب زيارته هو أماكن المكتبات الشهيرة حيث عقدت العزم على إقتناء مسرحيات وليام شكسبير .

وبناء على نصيحة الأصدقاء يممت وجهي صوب سور الأزبكية وذلك لدواعي إقتصادية لا يجهلها من تردد على هذا المكان حيث الأسعار المعقولة للكتب كونها مستعملة في المقام الأول ، وكانت فكرتي المسبقة التي كونتها في مخيلتي أن أرباب مكتبات هذا المكان لا بد وأنهم على دراية تامة وإستيعاب كامل لما يبيعونه .. بعد تردد إخترت إحدى المكتبات حيث هناك المئات من الكتب المتراصة في غيرما نظام ومبعثرة على أرففها وبعضها الآخر ملقى على الأرض ومعقوداً بأربطة يبدو تمهيداً لأخذ مكانها ضمن صفوت لا نهائية من الكتب والمراجع بهذه المكتبة .. وأتذكر أنه كانت تفوح من المكان رائحة يعرفها جيداً أصحاب الكتب الملقاة على أرفف مكتباتهم والتي لم يتصفحوها منذ سنين .

وجدتني والبائع وجهاً لوجه .. كان كبير السن نوعاً ما وبدت ثيابه في حالة رثة ، تفوح منه رائحة أولئك الذين لم يعرفوا راحة أبداً طوال سني حياتهم .. ذو جبين مقطب وسيجارة تستحلفه أن يلفظها من بين شفتيه فلم يعد هناك ما يمكن تدخينه منها ، إلا أنه يأبى.. في هذا الجو الذي شاهدته وكان مفاجئاً لي جعلني في حالة إستعداء مع هذا البائع كونه لن يكون لائقاً من الناحية الثقافية والفكرية لمناقشة سلسة الكتب التي أنتوى شراءها ... بادرته متسائلاً بفوقية .. أعندك مسرحيات لشكسبير ؟ لم يلتفت إلي .. إستمر في عمله في تنظيم الكتب وأجابني بعد برهة بدت لي طويلة شيئاً ما .. أي مسرحية تريد ؟ إذن الرجل يعلم ما أريد .. لم أتحمس له ، فباغته أو هكذا إعتقدت .. أريد مسرحية هاملت .. فباغتني هو هذه المرة .. أتريد نسختها الكاملة أم المختصرة ؟ أسقط في يدي وشعرت بالضآلة أمامه حيث كنت أعتقد أن ما درسته من مسرحيات أثناء دراستي الثانوية هي النسخ الكاملة لتلك المسرحيات ولم أدرك أنها لم تكن سوى نسخ مختصرة أعدت لأغراض دراسية مبسطة ليس إلا .. وبسرعة لملمت ما تناثر من ثبات موقفي وحاولت إعادة التوازن فيما بيني وبينه .. قلت له بل النسخة الكاملة .

دون أن يلتفت إلي مده يده لأحد جحور مكتبته دون حتى أن ينظر إلى موضع جحره وجذب كتاباً من القطع الصغيرذو صفحات صفراء وقال لي هاك ما تطلب .. في عجالة قلبت صفحات المسرحية وكأني الخبير في شأن أدب شكسبير.. قطع علي صاحبنا تصفحي السريع ... أهذا هو المطلوب ؟ .. قلت بتواضع هذه المرة .. نعم هذا هو المطلوب .. أعطيته ثمن المسرحية وبينما هممت بالإنصراف وأدرت له ظهري عاجلني بالقول .. ما لم تكن على دراية تامة باللغة الإنجليزية فلن تكون هذه المسرحية مفيدة لك بأي حال .. سائلته سؤال من يود الإعتذار ويريد التعلم .. وكيف ذاك ؟ أجاب أن بعض من كلمات وعبارات المسرحية قد كتبت باللغة الإنجليزية القديمة حيث أن كثير من هذه الكلمات والعبارات لم تعد تستخدم في اللغة الإنجليزية الحديثة .. لم أجد جواباً .. كل ما فعلته أن ودعته وقمت بالإنصراف بعدما رمقته بنظرة بها الكثير من الود والإحترام والخجل أيضاً .

سورالسيدة ... نموذج ثان إنتقلت إلى سور آخر حيث النفيس من الكتب المستعملة قبالة مسجد السيدة زينب رضي الله عنها ، في هذه المرة المشهد كان مختلفاً لا من حيث وصف الكتب والمكتبات فالمشهد لا يختلف كثيراً عن مشهد سورالأزبكية .. في السيدة زينب كان الترام يخترق شارعه الرئيسي بحيث يتبدى للراكب به كافة المكتبات على الجانب الأيمن من الترام .. دخلت إحداها وبدا لي صاحبه من أول وهلة ذو أصول ريفية .. بدا ذلك من هندماه وتقاطيع وجهه وذكاء يشع من مقلتيه ، وهذه حاسة لدي في الواقع لا أكاد أخطأها .. دار الحديث حول الكتب التي أطلبها وكانت وقتها بعض من مؤلفات الراحل توفيق الحكيم .. بكل حنكة وحماسة جلب لي المطلوب ولم يفوته التعليق على هذه الكتب حيث كان يشعر بالإستغراب من الأستاذ توفيق الحكيم الذي لا يهتم بأناقة كتبه المطبوعة ، وكان هذا صحيحاً تماماً ، فقد كانت كتب هذا العلامة ُتطبع على أردىء الأنواع من الورق وكانت مغلافاتها الخارجية أشبه بالورق الذي يلف به اللحم لدى الجزارين ، ويقال أنه كان يفعل ذلك بداعي البخل الذي أشتهر به.. تبادلت أطراف الحديث مع الرجل وإذا به شاعر وله إجتهادات نثرية كان يسعى لنشرها بمجلة الهلال ذائعة الصيت في هذا الوقت .هذان نموذجان بمدينة واحدة لمثقفي الأرصفة وهناك العديد بالتأكيد من هذين الصنفين في مدينة بحجم القاهرة ، وتذكرت على التو نوع آخر من هؤلاء المثقفين وربما ليسوا أقل شأناً منهم وهم بائعة الجرائد والمجلات الذين كانوا في السابق يجوبون الشوارع منادين على بضاعتهم الساخنة التي يحملونها بين أيديهم المتعبة حيث كان هذا الصراخ المتناغم .. أهرام .. أخبار .. جمهورية.. آخر ساعة.. الكواكب..المصور.. ومنهم من كان في قديم العهد يدلل أكثر فأكثر على نفاسة ما يحمله من أخبار فيصيح .. إقرأ سقوط حكومة الوفد .. إغتيال النقراشي باشا .
حقاً كانت أيام .. وهذه أيام

هناك تعليقان (2):

layal يقول...

وأتذكر أنه كانت تفوح من المكان رائحة يعرفها جيداً أصحاب الكتب
استوقفتني هذه العباره بكلامك فاللكتب رائحه لا يعرفها الا مريديها
معظم من اصادفهم من اصحاب المكتبات يكونون علي هذه الشاكله تعجبني ثقافتهم واسلوبهم مميز في الكلام والنظر
تحياتي لك علي موضوعك الممتع

البنات حسنات يقول...

نعم هؤلاءهم مثقفي الظل كما أراهم ، على أي حال تشرفنا بمرورك الكريم على المدونة ، وتقبل خالص التحية.

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة