2007/02/27

سقراط والحب والجمال



بقلم : ياسر حجاج
تنويه : عندما لم يسعن سوى بيتي لجأت مستغيثاً بمكتبتي ، لأفتش في أوراق كتبي المصفرة بعامل تدافع السنين ، لأجدد خلاياي الذهنية الميتة فكانت هذه المقالة ، التي تم إستقاؤها بتصرف من كتاب نزع غلافه ، وإنطمر تاريخ إصداره ، ولم تسعفن ذاكراتي بإسم مؤلفه ، وعليه فإني أعتذر مقدماً عن الإفادة بمصدر الموضوع وتاريخه وكاتبه ، وعليه لزم التنويه .
المكان : أثينا القديمة
الزمان : العام 407 ق.م
المناسبة : مأدبة أقامها الشاعر الأثيني أجاثون لأخلص أصدقائه إحتفالاً بفوزه بالجائزة الأولى لتأليف الدراما المسرحية .

بين أحاديث السمر وتبادل الأنخاب ، إنتقلت دفة النقاش إلى موضوع من أحب الموضوعات التي يحلو فيها الحديث للسامرين ، ألا  وهو
الحب ، فبدأ كلٌ يدلي برأيه فيه وفق فلسفته الخاصة .

قال فيدراس الحب هو أقدم الألهة وواحداً من أقواها وأعظمها نفوذاً ، إنه يخلق من الأفراد العاديين أبطالاً بدافع خجل العاشق من إظهار الجبن في حضرة محبوبته ، ثم أردف قائلاً  فلتعطوني جيشاً من العاشقين وأنا الكفيل بأن أغزو به العالم .

فقال المتحدث الثاني بوسانياس معلقاً .. هذا صحيح ، لكن ينبغي أن نُفرق بين الحب الأرضي والحب السماوي ، بين الجاذبية بين جسدين من ناحية ، والتجاوب بين روحين من ناحية أخرى ، فعندما تذبل زهرة الشباب يتخذ الحب الجسماني الزائل لنفسه أجنحة ويطير إلى غير رجعة ، أما حب الروح النبيل فهو باق ودائم .

وهنا يدخل الشاعر الفكه أريستوفان في الحديث فيأتي بنظرية جديدة في الحب حيث يقول ، أنه في سالف الزمان كان الجنسان متحدين في جسم واحد ، مستدير كالكرة ، وله أربع أياد وأربع أقدام ووجهان ، وكان هذا الجسم سريع الحركة إلى درجة خارقة ، حيث يستخدم أطرافه الثمانية في الدوران الدائب كالعجلة ، وكان قوته رهيبة وطموحه لا يحد ، فبدأ يدبر الخطة لمحاصرة السموات ومهاجمة الألهة !! لكن زيوس كبير آلهة جبال الأوليمب أحس بالخطر المقترب ففكر في أن يشطر ذلك الجنس إلى شطرين ، إلى رجل وإمرآة كي تضعف قوته وينشغل كل نصف بالسعي إلى نصفه الآخر ! وقد كان ، ومنذ ذلك اليوم صار يلهب كلا من الشطرين شوق مضن إلى الإندماج في شطره الثاني ، وهذا الشوق الذي يجذب كل من الجنسين نحو الجنس الآخر هو ما نسميه الحب .

وتلت هذه التفاسير الهزلية للحب أراء وتعريفات أخرى لطيفة ، حتي سُئل ضيف الشرف سقراط أن يدلي بدلوه في النقاش ، فقال بعد كل هذه الفصاحة لا أجد ما أقوله ، إذ كيف يتأتى لغبائي أن يحاجج مثل كل هذه الحكمة ؟ ، وبعد أن يلقى سقراط عن كاهله العبء بهذا التمهيد المنطوي على تواضع ساخر ، يستأنف حديثه لينسف بغبائه كل حكمة القوم ويمزق حججهم الواهية بسلسلة من أسئلته المحيرة التي لا جواب لها ، والتي كان أول من إبتدعها في المناقشة وبرع فيها ، فصارت اليوم أساساً من أسس التربية والتعليم ، وبعد أن يتم له هدم بنائهم المتداعي يشرع في التشييد والبناء على أنقاضه ، فيطلع على مجالسيه بهذه النظرية الجدية في الحب إذ يقول :

الحب هو جوع النفس البشرية للجمال الألهي ، فالعاشق لا يشتاق فقط إلى العثور على الجمال ، وإنما يشتاق أيضاً إلى خلقه ومواصلته ببذر بذرة الخلود في الجسد الفاني ، وهذا هو سر حب كل من الجنسين للأخر ، لرغبتهما في إعادة إنتاج نفسيهما من جديد ، وإطالة فسحة الزمن أمامهما إلى الأبد ، وهذا هو أيضاً سر حب الأباء لأطفالهم ، فكما يستمرىء جسم الوالد خلق طفله ، تستمرىء روحه متعة خلق روح جديدة ، تواصل بعدها حمل مشعل البحث الخالد عن الجمال .

ويستطرد سقراط متسائلاً ، ما هو هذا الجمال الذي نسعى جميعاً إلى إستمراره عن طريق الحب ؟ إنه الحكمة والفضيلة والشرف والشجاعة والعدل والإيمان ، وبالإختصار فإن الجمال هو الحق ، والحق يقود رأساً إلى الله .

وهنا يصفق الحضور للفيلسوف الحافي القدمين ، ويستمر برنامج سهرتهم حتى الصباح ، ثم يخرج سقراط ، ليبدأ جولته اليومية لنشر الحكمة بين أهل أثينا .


ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة