2019/07/26

فقه الجنائز العربية !


بقلم : ياسر حجاج


ترسَّخَ في المِخيال العربي والإسلامي - بشكلٍ يدعو للدهشة - أن الجنائز هي الحد الفاصل في الحكم للمرء أو عليه، فبمقدار ما يتبعُك من مُشيعين تكن مكانتك في القلوب.

بمرور الوقت بات هذا الأمر مدعاة للفخر والعُجب في نفوس المُحبين والأتباع والدروايش. كما أن المهوسين بالأرقام القياسية يجدون في أمثال هذه المناسبات الجليلة فرصة لإضافة بعض الأرقام.

إمام الحنابلة يقول - من قديمٍ - لمن أسماهم بأهل البِدَع : (بيننا وبينكم الجنائز)، فصار الأمرُ مثلًا وجرى على ألسنة العامة بلا وعي تقريبًا.
 

في السياسة أيضًا يجرى توظيف أعداد المُشيعين لإضفاء هالة من القداسة الكاذبة، والإحترام الممزوج بالنفاق والرهبة، وإضافة المزيد من الصفحات المزورة على أسفار التاريخ، فالبطولات الوهمية، والإنتصارات الخادعة، يجري تداولها ما بين الناس وهو يحتسون قهوة العزاء، وكأنهم كانوا عليها شهودًا أو أدلاءً ومرشدين!

نحن جميعًا نعلم كيف تتم تعبئة وشحن الجماهير كقطعان مسوقة، مسلوبة الإرادة إلى ميادين التشييع، وسرادقات العزاء ، نحن نعلم أيضًا أن بعض المشيعين يذهبون بدافعٍ من الحب وإلتماسًا للأجر والثواب.


من البحر إلى البحر، وفي الحاضرة العربية المنكوبة، التي تتقيأ يوميًا على وجه الخارطة العالمية، مات نفرٌ كثير من الحُكَّام، ما رأيتُ أن واحدًا منهم كان مُستأهلًا للعيش يومًا واحدًا إضافيًا، وذلك بالنظر إلى تركتهم التي توارثتها الأجيالُ من بعدهم، وناءت بحملها كواهلهم المُتبعة. كم تعس هذا الجيل من الناس، الذين يدفعون فواتير الطغاة على الدوام، الأموات منهم والأحياء ، ثم أنهم مطالبون بأن يذرفون عليهم الدموع، بل ويسيرون يُجللهم الخشوع - في جنائزهم - إذا ما إنفلتت يومًا أرواحهم.


الجدير حقًا بأن تُتبع جنازته في هذه الحاضرة الغائبة على الدوام ، ذلك الذي كَفَل في بلاده حرية الرأي والتعبير، الديمقراطي الشريف غير المتلاعب بنصوص الدستور، نظيف اليد، الغير متواطئ مع أعداء الشعب، الذي لم يُنكل بمعارضيه، الحافظ لكرامات الناس، الذي لا يُسقط من يده سيف القانون أبدًا، الذي يُرسخ مبدأ المساواة والعدل، الباني لصروح الحداثة والعلم والبحث، لا الجوامع والكنائس والمعابد، الذي يتعهد صحة الناس بالرعاية، لا دوره وقصور حكمه.

لو كانت هذه هي حقًا معايير اتباع الجنائز، ما وجد أكثر حُكَّامنا من يضعه في قبره، ويُهيل على وجهه التراب!


رحم الله الباجي قائد السبسي، الرئيس التونسي، الذي يبدو أنه كان لديه ما يقوله ويفعله بإخلاص لشعبه في سنوات قليلة، ولكنها الأقدار على كل حال، هذا رجل في ظني خليقٌ بأن تُتَبع جنازته ولو من مكان بعيد.

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة