2015/01/09

مسافر زاده .. الجمال .



إذا سالتني عن خلاصة ما تعلمته من القانون (دراسة وممارسة) على مدار أكثر من 30 سنة لقلت لك أنه ليس سوى قاعدة واحدة فحسب ، قاعدة فقهية بالأساس أخذت أشكال قانونية لاحقاً وهي أن ( العبرة بالمقاصد والمعاني .. لا بالألفاظ والمباني ) .

أي أنه في إطار الحكم أو التناول فيما يخص (الأشخاص ، الأفكار ، الأشياء ) فلا تهتم إلا بالمعني المراد ، والقصد النهائي ، ولا يكن كل شغلك العناية بالشكل الذي إتخذه أو الزي الذي تزيا به ، قلا تغرق في التفاصيل المحيطة ، بل إحرص على الولوج إلى النقطة المركزية في الدائرة ، دون إلتفاف – غير مبرر – حول محيطها ، ذلك أن الإسراف الممل في التفاصيل قد يُصرفك عن معالجة صلب القضية ، وينسيك بالتالي جوهر الموضوع ، فتظل مراوحاً لفكرة وتظن أنك قد عالجتها ، والحقيقة أنك حتى لم تقترب منها .

حسناً .. نشرت مقالات أربعة عن فكرة المقدس للمفكر العلامة د. حسن حنفي عن (ماهية المقدس) ، وحرصت أن لا أقترب من تعديل الصياغة أو سياق الفكرة التي تناولها صاحبنا إلا بالقدر الذي رأيته لازماً لإظهار الفكرة أو بيان المعنى ، ذلك أن هذا الصنف من المفكرين يكتبون بطريقة مغايرة لتلك التي تعودها ربما الكثيرون منا ، فصنف المفكرين والفلاسفة - أمثاله - غالباً ما يلجأون (للترميز) و(الإيحاء) و(الإسقاط) ، مع تحريض خفي للمتلقين على إجالة الخاطر فيما يكتب هؤلاء ، وغالباً أيضاً ما يُحجم أيضاً المفكرون وصنوف الفلاسفة عن وضع إجابات حاسمة ، أو حتى تصورات شبه نهائية لأسئلتهم وقضاياهم المحيرة ، وإلا ماعُـدوا فلاسفة ، فالفلسفة في تقديري هي (فن إثارة الدهشة) ، ولكن هذه قضية أخرى

*****
الآن عودة إلى المقدس !
لعلنا نتفق على أن القيم الإنسانية النبيلة بكافة أشكالها قد سبقت ظهور الأديان ، فقد توافق الناس على مجموعة نظم ومبادئ – تم تطويرها عبر السنين - رأوها كفيلة بتنظيم حياتهم ، ورعاية شئونهم ، وقد صمدت هذه النظم وتلك المبادئ بالقدر التي ظلت فيه متناغمة مع الفطرة البشرية في صورتها الأولى والمتمثلة في معنىً واحداً – في تقديري – ألا وهو الجمال ، نعم .. الجمال الذي يتفرع عنه كل مؤنس للنفس ، كل متحد مع القلب ، كل ما لا يجرح العين ، ولا يخدش المشاعر .
فمن أين أتى الجمال إذن ؟
الجمال خلقة وصنعة أبدعها الكبير المتعال ، ولكنه أيضاً - وفي جزء منه - تدريب ومراس ومران ، نتعلمه ، نمارسه ، ونعايشه ، وبقدر إتساقك مع نفسك ، ومع ( من أو ما ) حولك تستطيع الحكم بسهولة على القدر الذي حصلته في مضمار الجمال ، فأنت جميل بالعين التي تنظر بها ، وبالوعي الذي بداخلك ، وبالضمير الذي يحركك ، وبالوازع الإنساني أو الخُلقي الذي هو مناط كل جمال .
هل الإنسان مقدس ؟
الإنسان هو الغاية النهائية لأي جهد يُبذل في شأن من الشئون ليظل قادراً على الوفاء بالتكليف المناط به ، لكن هذا لا ينبغي أن يُحمل على مظنة أنه مقدس بصورة من الصور ، فالإنسان يجوع ويعطش ، يهدأ ويغضب ، يتذكر وينسى ، يصح ويسقم ، وغيره كثير ، والإنسان بهذه المثابة ، لا يمكن أن يكون مقدساً ، المقدس كما أراه ليس سوى الله المنزه عن كل عيب ، والمتسامي عن كل نقيصة .

حوار أجريته مع نفسي وأنا أفكر في هذا الموضوع الذي شغلني لبعض الوقت ، ولكني فرغت تماماً من تكوين قناعتي النهائية حوله ، فلننظر إلى ما حدثتني به نفسي ، وما حدثتها به :-

·        سألتُ عن المقدس ، قالوا لي الإنسان .
·        بما نال هذه المنزلة ؟ قالوا بسعيه نحو الكمال .
·        فإن لم يبلغ السعي تمامه ؟ قالوا يكفيه السعي لا التمام .
·        فإن أتمه ؟ قالوا لم يبلغ ذلك إنسان .
·        وما الكمال ؟ قالوا نقيض النقصان .
·        فما النقصان ؟ قالوا علل وأسقام .
·        قلت فكيف يغدو مقدساً من حاله السقم والإعتلال ؟
*****
أي أن الإنسان يجب أن لا يتألى على الله ، ويكفيه سعي حثيث ، وعمل دؤوب نحو الكمال ، الذي أراه ليس سوى الجمال ، وعليه فإن الإنسان ليس مقدساً ، ولن يكون ، بل الإنسان مكرماً فحسب ، أو كما قال الله تعالى ( ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا - الإسراء 70) ، نعم مُكرم من كريم ، وأي فضل بعد هذا يرنو إليه المرءُ وهو يرى من خلقه يقول له أنت مكرم ؟ افيتأبى الإنسان بعد ذلك على مقام المقدس ، وينازعه ما ليس له ، ثم بأي دليل ؟ .

عودة إلى المقالات الأربعة .
المقالات الأربعة التي تفضل بها د. حسن حنفي حوت الكثير من الإشارات الموضوعية الهامة لعل أهمها – في ظني - وجوب عدم الإستغراق الكلي في (الشكل) دون (المضمون) لدى الحديث عن المقدس ، فذلك آفة كل فكر ، بل العكس هو ما ينبغي ان يكون - وكما قلت في مقدمة المقالة – من وجوب العناية بالمقصد والمعنى دون اللفظ والمبنى ، وهذه الحقيقة التي ينبهنا إليها صاحبنا هي الوصفة الشافية والناجعة لكل ألم يلمُ بامة ، ولكل سقم يعتري مذهب أو طائفة ، ولو حاول كل واحد منا – بإجنهاده الفردي- أن يجعل من هذه القاعدة منهجاً أو أسلوباً لحياته ، لتغير مساره ، وإعتدلت بوصلته صوب درب الجمال الذي هو صفة من صفات المُقدس سبحانه .

ولكي أكون متسقاً مع نفسي فإن سائر المقالات وما حوته من جدل عقلي لطيف ، ورياضة ذهنية لا بأس بها ، يصح تماماً أن تكون دروساً أكاديمية رصينة لطلبة الدراسات العليا بأقسام الفلسفة ، ولأولئك المغرمون بـ (الديالكتيك) من كل صنف ونوع ، ذلك أنني لا أستطيع أن أتقبل فكرة أن يُقطع ذلك الخيط الممدود من السماء إلى الأرض ، وإنجاز قطيعة تاريخية مع الماضي بزعم أن هذا غرق في (الرمز) دون (المرموز) .

دائما ما تكون هناك مناطق وسطى في الأشياء ، ويجب ألا يكون الخيار دائما في هكذا أمور إما النقطة (أ) أو النقطة (ب) ، إما (معنا) أو (ضدنا) ، لا .. التوسط في كل شئ أمر حسن ولا ريب ، وكوني أو كون بعضنا ينظر بمزيد من الإجلال والتقدير لفكرة المُقدس ولكونها منحصرة في ذات الله فحسب دون غيره ، لا يعني أن اهمل أو نهمل كل ما يقربنا إلى هذه الفكرة أكثر وأكثر ، وذلك بالعناية التامة بكل القيم الإنسانية النبيلة ، والفضائل ، ومكارم الخلاق وسائر العناوين الفرعية التي تأتي تبعاً لها ، وتنفيذاً لمفتضاها .

 شخصياً .. لا أرى غضاضة أبداً في أكون مؤمناً حسن الإيمان ، ولكني مُكب على عملي ومجتهد فيه ، أصون الآخر أياً كان (إسمه أو رسمه) ، أحترم خياراته مهما بدت غير متسقة مع الخط العام لأفكاري ، أهتم بحقه وحريته في إبداء رأيه وممارسة معتقده ، بالشكل الذي لا يكون صادماً للقيم الإنسانية التي تصالح عليها الناس في عمومهم على مدار حقب التاريخ ، وهذا الرأي الذي أقول به ليس سوى إجتهاد قد يغلب عليه الصواب ، وقد ينال من صوابه الخطأ ، وهذا حال الإنسان منذ كان ، سعي نحو الجمال ، فإن تنكب الطريق فذاك ليس بقبح ، وإنما ربما جمال أقل .

كن جميلاً .. كوني جميلة ،،،

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة