2015/01/07

ماهية المقدس ! - 4/3





المُقدس .. فطري أم مُكتسب ؟
تستمر الرحلة مع د. حسن حنفي في بحثه القيم عن المُقدس ، ويطرح تساؤلاً هاماً هنا ( المُقدس فطري أم مكتسب ؟ ) ، فيقول أن المُقدس فطري في النفس ، بينما أشكاله الخارجية (العبادات) فهي مكتسبة ، ففي كل نفس بشرية هناك المثال القابع فيها الذي يدفع نحو العمل والسعي نحو الكمال ، والنفس بها نازعان ، أول نحو هذا الكمال أو الواجب ، وثاني محكوم باالممكن الذي هو في حدود الطاقة .

فالمُقدس مفطور في النفس كالشعر أو الخيال ، ولا يعني الشعر هنا الشكل الأدبي المعروف ، بل يعني القدرة على تحويل الأشياء إلى صور فنية حتى يسهل فهمها والتعبير عنها وإيصالها إلى الناس ، تماماً كما يفعل (الوحي) في التعبير عن الله ، وهو ما يسمى التشبيه كقوله تعالى (وما رميت إذ رميت ، ولكن الله رمى) ، ( يد الله فوق أيديهم ) ، وهو ما يسميه القرآن ضرب الأمثال ( ويضرب الله الأمثال للناس ) ، فالإنسان يولد شاعراً ، وإلا ما إستطاع إدراك رسالة الأنبياء أو التعبير عن عواطفه مثل الحب والكرامة وغيرهما .

لقد كانت أشكال المقدس جزءاً من الفن الرفيع مثل الرسم والعمارة والنحت والموسيقى ، بل جزءاً من التراث الشعبي من موالد ورقص وغناء وإنشاد ديني ، فقد إرتبط الدين بالفن ودخل أعماق النفس من خلاله ، لذا نجد أن الفرق بين النبي والشاعر ليس كبيراً ! فإذا كان (الجمال) موضوع الفن ، فإن (الجلال) موضوع الدين .

من ناحية أخرى لا يمكن الإستغناء عن المُقدس بإعتباره يمثل الجانب المتعالي والمثالي والأخلاقي والشعري في الإنسان ، فالمُقدس هو بعد من أبعاد الشعور وليس مقولة ثابتة أو شيئاً عينياً في الواقع ، وإقصاؤه - أي المقدس - هو تحويل الإنسان إلى شئ ، فالأشياء وحدها هي التي لا تتعالى على ذاتها .

                                                                           *****

 

من جهة أخرى قد تُقسم الشعوب على أساس التقديس ، فهناك شعوباً أكثر تقديساً من شعوب أخرى ، فيُقال مثلاً أن الشعوب الشرقية أكثر تقديساً من الشعوب الغربية ، وهو تعميم في حاجة إلى تفصيل ، فالهند والصين واليابان شعوب شرقية إستطاعت أن تحول المقدس إلى العالم ، وتُنزله من السماء إلى الأرض ، فقد تحولت عبادة الإمبراطور في (الشنتوية) في اليابان إلى عبادة الدولة والنظام ،كما تحول (كونفوشيوس) في الصين من الأخلاق إلى السياسة ، ومن الفرد إلى الأمة ، ومن الكمال الروحي إلى أعلى معدل في التنمية والصادرات ، كما تحول (بوذا) في الهند من شخص إلى مشروع نهضوي ، ومن إله إلى كمال .

*****
أنواع المُقدس
يقول د. حسن حنفي في هذا السياق أنه على الرغم من أن المُقدس ناتج عن فعل التقديس ، فإنه تحقق أيضاً في موضوع خارجي ، فقد يكون المُقدس مكاناً أو زماناً أو مدينة أو هيكلاً أو صنماً أو شخصاً أو أثراً أو جماعة أو كتاباً ، مثال من ذلك أن قدماء المصريين عبدوا الشمس والنيل ، وعبدت الصابئة النجوم والكواكب ، وعبدت كوريا القمر ، وقدست بعض القبائل العربية جبل أبي قيس ، بل أن تعبير الأرض المقدسة ورد في القرآن الكريم ، وهي الأرض التي يود بنو إسرائيل الإستقرار فيها ، وقد يكون المُقدس هو الوادي أي جزء خصيب من الأرض ومعاش الإنسان .

والزمان مُقدس وله أشكال عدة ، منها الدهر وهو كل الزمان الذي يتوحد الله به ، ( لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر ) ، والقرن مقدس - مائة سنة- ( خير القرون قرني ثم الذي يلونه ) ، قُدس أيضاً زمن الرسول ، ثم زمن الخلفاء الراشدين ، ثم زمن التابعين ، ثم زمن تابعي التابعين ، ويقل الفضل كلما تقدم الزمان ، وقد تحول الزمان المقدس إلى التارسخ المقدس ، كتاريخ الأنبياء لدى بني إسرائيل ، وتاريخ الكنيسة عند المسيحين ، وتاريخ الخلفاء عن المسلمين ،

قد تصبح المدن مقدسة ، كالقدس الشريف ، ومكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، بل أن منازل الخلفاء والصحابة حول الحرم المكي أو ما تبقى منها منازل مقدسة ، والنجف وكربلاء عتبات مقدسة ، و(قم) مدينة مقدسة في إيران .
والمقدس دوائر متعددة له قلب وأطراف ، فقد يكون المنبر داخل المسجد ، أو الهيكل داخل المعبد ، والمصلى داخل الكنيسة .
 وقد يكون المقدس (شيئاً) مثل الحجر الأسود ، الصليب ، أو الهلال ، أو الشمعدان السباعي ، أو النجمة الخماسية ، أو السداسية .
وقد يكون المقدس نبياً أو ولياً أو إماماً أو شيخاً  أو درويشاً أو صوفياً أو مجذوباً ، وربما كان المقدس جماعة مثل رجال الكنيسة والرهبان والكرادلة والقساوسة والأحبار والمشايخ والمفتين والعلماء والفقهاء والطرق الصوفية ، فكما ترون أن الدين يضفي قدسيته على حامليه .

أخيراً .. قد يكون المقدس كتاباً ( التوراة - الإنجيل - القرآن ) ، يُحفظ في مكان طاهر ولا يمسه إلا المطهرون ، يُجلد بعناية بقطيفة حمراء وخضراء ، وعنوانه بالذهب ، يوضع على المكاتب ويُعلق في الرقاب وفي العربات للحفظ من الشرور ، يُقبل ويُتبرك به ، وينتقل من الشفاه إلى الجبهة دليلاً على التعظيم ، علماً بأن الكتاب في القرآن لا يوصف بأنه مقدس ، فالمقدس وصف للروح (القدس) ، ولله (القدوس) ، وللوادي (المقدس) ، والأرض (المقدسة) ، ووصفت الروح بأنها (القدس) ، ولم يوصف الله تعالى في القرآن بأنه (مقدس) ، بل (قدوس) ، أي ناشئ عن فعل التقديس ، ومن المرات العشر التي استُعمل فيها القرآن للفظ ، إثنتان منهما في صيغة (قدوس) وصفاً لله تعالى .


يُـتبع

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة