من دون أشياء كثيرة ، وحدها الأفكار تأخذ
وقتاً أطول للنضوج ، فإن نضجت - أو بدت كذلك - طُرحت على وجوه الخلق ، فمنهم من
يتقبلها بقبول حسن ، ومنهم من يلفظها ، ومنهم من يقف حيالها حائراً متشككاً ،
وهناك أيضاً من يرجمها بحجر ودون مبرر واضح أحياناً ، تلك سُنة قد خلت في الذين من
قبلنا ، وستستمر معنا ، ومن بعدنا حتى خط النهاية . الأفكار في ذاتها لا تموت
، ولا ينبغي لها ، ذلك أنها في النهاية ليست سوى نتاج معاناة إنسانية ما ، صحيح
أنك قد تتفق أو تختلف معها بالنظر إلى المخرجات النهائية لها ، إلا انها تظل فكرة
، حتى وإن بدت غريبة أو حتى شاذة ، من هنا تأتي أهمية تطوير الأفكار والبناء عليها
ومعالجة الإختلالات الحادثة بها ، ولكن وفق المعايير العقلية والإنسانية التي تواضع عليها عموم الناس .
كثيرة هي الأفكار العظيمة ، واللفتات
النابهة في تاريخ الأمم والشعوب ، بيد أنها - في حينها - ربما لم تكن كذلك في نظر
البعض ، بل ولربما كان يُنظر إليها بحسبانها ليست سوى نزق مفكر مفلس ، لا يجد
إيجار غرفته الرثة ، أو طيش جامح أصاب عقل أديب ، لا يكاد ينتبه من نوبة
سكر، حتى يدخل في أخرى . تمضي أعوام عديدة ، وربما قرون ، قبل أن ينتبه أحد
ويتساءل .. ولما لا ؟ فإذا بنا إزاء هذا المفلس أو ذاك السكير وقد وضع قدمنا على
جادة الطريق أو دس في أيدينا مفتاح الولوج إلى الحقيقة في صورتها البهية .
تظل الأفكار على هذه الحال تتردد ما بين
منتديات المثقفين ، إلى حوانيت العامة ، إلى أن تغدو ثرثرة مقيتة تلوكها الألسن في
الطرقات ، وذلك حتى ينبلج لها صبح مأمول ، أو تُدفن مع أول خيط من خيوط الفجر ،
سيكون أمراً رائعاً في تقديري ، لو قُدر للفكرة المتسرعة أن تُسحب من سوق
التداول ، وتحل ضيفة على غرفة مثيلاتها (المبتسرات) ، فينالها من الرفق والعناية
والأناة ، ما يجعلها مهيأة - بعد حين - للإختبار والصمود مرة أخرى .
الأفكار الكبيرة هي غالباً وليدة نقاشات كبيرة ، وحوارات إيجابية نالت حظها الأوفى من الفهم والإدراك والإخلاص ، ومن الأمثال
الجارية ( أنك إن أردت أن تقفز عالياً ، فعليك قبل ذلك أن تعدو طويلاً ) وإلا -
وبمفهوم المخالفة - فإنك لن تتمكن بحال من بلوغ القمة المرادة ، وأنت مزروع في المكان .
لقد بات من الواضح الآن ، وبالنظر إلى واقعنا المُعاش ، أن لا أفكار كبيرة منتظرة ، ذلك أننا لا نجيد النقاش الإيجابي ، بقدر ما نجيد الكلام ، أمر ملفت للغاية أن تكتشف بعد ساعات من المناظرة والمناكفة ، أنك لم تقل شيئاً تقريباً ، على الرغم من أنك لم تكف لحظة عن الكلام ، فإما أنك لم تقترب من ملامسة جدية لحدود ما كنت تتحدث في شأنه ، وإما أنك كنت تتحدث في شأن مختلف تماماً عن موضوع نقاشك الأصلي ، متوهماً أنه فرع منه أو ذا صلة به ، من المحبط أنك تكتشف ذلك بعد إنتهاء جلسات النقاش ، حيث من العسير الإستدراك ، أو حتى الإعتذار ، وبالتالي فإن هكذا بؤس ليس من شأنه أن ينتج أفكاراً ، بل ربما صداعاً بنكهة عربية مقززة .
لقد بات من الواضح الآن ، وبالنظر إلى واقعنا المُعاش ، أن لا أفكار كبيرة منتظرة ، ذلك أننا لا نجيد النقاش الإيجابي ، بقدر ما نجيد الكلام ، أمر ملفت للغاية أن تكتشف بعد ساعات من المناظرة والمناكفة ، أنك لم تقل شيئاً تقريباً ، على الرغم من أنك لم تكف لحظة عن الكلام ، فإما أنك لم تقترب من ملامسة جدية لحدود ما كنت تتحدث في شأنه ، وإما أنك كنت تتحدث في شأن مختلف تماماً عن موضوع نقاشك الأصلي ، متوهماً أنه فرع منه أو ذا صلة به ، من المحبط أنك تكتشف ذلك بعد إنتهاء جلسات النقاش ، حيث من العسير الإستدراك ، أو حتى الإعتذار ، وبالتالي فإن هكذا بؤس ليس من شأنه أن ينتج أفكاراً ، بل ربما صداعاً بنكهة عربية مقززة .
*****
تجربة طريفة مررت بها ، وكنت أحد شهودها ، بل ومن المشاركين فيها ، كان الأمر أشبه
بمهزلة حقيقية ، ذلك أن أحد الزملاء طرح على صفحته على الفيس بوك سؤال بسيط ،
يتعلق بإعراب جملة ، بدا وكأن لديه مشكلة في فهم مدلولها ، وبالتالي قد صعُب عليه
أمر إعرابها ، فناشد الأصدقاء التدخل ليدلو كل منهم بدلوه ، وبالفعل تداخل الكثير
من أصدقاء صفحته ، تلبية لهذه الدعوة .
في الحقيقة إستغرق الأمر أكثر من يومين على
ما أذكر حتى إنتهت كل التعليقات التي فاقت المائة بكثير ، وبما أنني كنت أحد
المشاركين في التعليقات ، فقد أخذتني الدهشة بعد فترة وأنا أتابع تسلسل تعليقات
الأصدقاء ، يا إلهي .. أكثر من 95% من التعليقات ليس لها علاقة لا بأصل السؤال ولا
بأي مضمون قد يتصور أنه متفرع منه ، فصحت في مرح : ألم يكن موضوع (البوست) مجرد
سؤال في النحو ؟ فما هذا الذي أراه !! .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق