2015/11/01

عفواً .. ماذا تقول !!


بقلم : ياسر حجاج
من دون أشياء كثيرة ، وحدها الأفكار تأخذ وقتاً أطول للنضوج ، فإن نضجت - أو بدت كذلك - طُرحت على وجوه الخلق ، فمنهم من يتقبلها بقبول حسن ، ومنهم من يلفظها ، ومنهم من يقف حيالها حائراً متشككاً ، وهناك أيضاً من يرجمها بحجر ودون مبرر واضح أحياناً ، تلك سُنة قد خلت في الذين من قبلنا ، وستستمر معنا ، ومن بعدنا حتى خط النهاية . الأفكار في ذاتها لا تموت ، ولا ينبغي لها ، ذلك أنها في النهاية ليست سوى نتاج معاناة إنسانية ما ، صحيح أنك قد تتفق أو تختلف معها بالنظر إلى المخرجات النهائية لها ، إلا انها تظل فكرة ، حتى وإن بدت غريبة أو حتى شاذة ، من هنا تأتي أهمية تطوير الأفكار والبناء عليها ومعالجة الإختلالات الحادثة بها ، ولكن وفق المعايير العقلية والإنسانية التي تواضع عليها عموم الناس .

كثيرة هي الأفكار العظيمة ، واللفتات النابهة في تاريخ الأمم والشعوب ، بيد أنها - في حينها - ربما لم تكن كذلك في نظر البعض ، بل ولربما كان يُنظر إليها بحسبانها ليست سوى نزق مفكر مفلس ، لا يجد إيجار غرفته الرثة  ، أو طيش جامح أصاب عقل أديب ، لا يكاد ينتبه من نوبة سكر، حتى يدخل في أخرى . تمضي أعوام عديدة ، وربما قرون ، قبل أن ينتبه أحد ويتساءل .. ولما لا ؟ فإذا بنا إزاء هذا المفلس أو ذاك السكير وقد وضع قدمنا على جادة الطريق أو دس في أيدينا مفتاح الولوج إلى الحقيقة في صورتها البهية . 

تظل الأفكار على هذه الحال تتردد ما بين منتديات المثقفين ، إلى حوانيت العامة ، إلى أن تغدو ثرثرة مقيتة تلوكها الألسن في الطرقات ، وذلك حتى ينبلج لها صبح مأمول ، أو تُدفن مع أول خيط من خيوط الفجر ، سيكون أمراً رائعاً في تقديري ، لو قُدر للفكرة المتسرعة أن تُسحب من سوق التداول ، وتحل ضيفة على غرفة مثيلاتها (المبتسرات) ، فينالها من الرفق والعناية والأناة ، ما يجعلها مهيأة - بعد حين - للإختبار والصمود مرة أخرى .

الأفكار الكبيرة هي غالباً وليدة نقاشات كبيرة ، وحوارات إيجابية نالت حظها الأوفى من الفهم والإدراك والإخلاص ، ومن الأمثال الجارية ( أنك إن أردت أن تقفز عالياً ، فعليك قبل ذلك أن تعدو طويلاً ) وإلا - وبمفهوم المخالفة - فإنك لن تتمكن بحال من بلوغ القمة المرادة ، وأنت مزروع في المكان .
لقد بات من الواضح الآن ، وبالنظر إلى واقعنا المُعاش ، أن لا أفكار كبيرة منتظرة ، ذلك أننا لا نجيد النقاش الإيجابي ، بقدر ما نجيد الكلام ، أمر ملفت للغاية أن تكتشف بعد ساعات من المناظرة والمناكفة ، أنك لم تقل شيئاً تقريباً ، على الرغم من أنك لم تكف لحظة عن الكلام ، فإما أنك لم تقترب من ملامسة جدية لحدود ما كنت تتحدث في شأنه ، وإما أنك كنت تتحدث في شأن مختلف تماماً عن موضوع نقاشك الأصلي ، متوهماً أنه فرع منه أو ذا صلة به ، من المحبط أنك تكتشف ذلك بعد إنتهاء جلسات النقاش ، حيث من العسير الإستدراك ، أو حتى الإعتذار ، وبالتالي فإن هكذا بؤس ليس من شأنه أن ينتج أفكاراً ، بل ربما صداعاً بنكهة عربية مقززة .

*****
تجربة طريفة مررت بها ، وكنت أحد شهودها ، بل ومن المشاركين فيها ، كان الأمر أشبه بمهزلة حقيقية ، ذلك أن أحد الزملاء طرح على صفحته على الفيس بوك سؤال بسيط ، يتعلق بإعراب جملة ، بدا وكأن لديه مشكلة في فهم مدلولها ، وبالتالي قد صعُب عليه أمر إعرابها ، فناشد الأصدقاء التدخل ليدلو كل منهم بدلوه ، وبالفعل تداخل الكثير من أصدقاء صفحته ، تلبية لهذه الدعوة .

في الحقيقة إستغرق الأمر أكثر من يومين على ما أذكر حتى إنتهت كل التعليقات التي فاقت المائة بكثير ، وبما أنني كنت أحد المشاركين في التعليقات ، فقد أخذتني الدهشة بعد فترة وأنا أتابع تسلسل تعليقات الأصدقاء ، يا إلهي .. أكثر من 95% من التعليقات ليس لها علاقة لا بأصل السؤال ولا بأي مضمون قد يتصور أنه متفرع منه ، فصحت في مرح : ألم يكن موضوع (البوست) مجرد سؤال في النحو ؟  فما هذا الذي أراه !! .


إن لم تكن تصدقني .. حاول أن تجرب هذا ، خض غمار أي نقاش مع فرد أو مجموعة  ، فأياً ما كان الموضوع ، سينتهي بك المطاف حتماً على غير مبتداه ، وبشكل جلي حقاً ستعاين بنفسك ، ماذا تعنيه عبارة (المتلازمة الجدلية البائسة) ، فإن هي إلا لحظات حتي (يتكور) النقاش فيغدو ككرة تتقاذفها الأرجل يمنة ويسرة ، فما بين مشكلة الشرق الأوسط ، وازمة اللاجئين السوريين ، إلى بطء خدمة الإنترنت بمنزلك ، إلى رائحة العطر لهذه الحسناء التي مرت لتوها الآن ، إلى أحدث تسريحة رأيتها لزوجة جارك ، إلى نتائج الإنتخابات البرلمانية ، لكن .. إنتبه ، ماذا كان محور النقاش في الأصل ؟ آه .. كنت تتحدث عن أحدث أنواع الهواتف المحمولة المتاحة بالأسواق الآن ، لا أستغرب أبداً ولأسباب تربوية وتعليمية ، أننا لا نجيد إحراز الأهداف ، على الرغم من إستحواذنا على الكرة لمدد طويلة  ، فكما أننا نتكلم كثيراً ، فإننا في الواقع ، لا نقل شيئاً . 

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة