2015/11/15

عذراً .. باريس !


بقلم : ياسر حجاج
في الأزمنة المرتبكة كزماننا ، والعوالم الخطرة كعالمنا ، تغدو الجغرافيا المحيطة ترفاً ، وعلم الإجتماع يُصبح مكملاً ثقافياً يمكن أن ينتظر قليلاً أو كثيراً ، فالكون بخريطته البائسة ، وخبيئته المريبة ، لن يكون بوسعه أن يقدم لك تبريراً مقنعاً ، لاسيما إذا ما تداخلت لديك خطوط الطول والعرض ، بفعل الكوميديا السوداء ، التي هي على مرمى حجر منك ، أينما وليت وجهك عاينت طرفاً لها ، حتى وإن لم تكن جزءاً منها ، فالشرر وإن كان يصيب اللاعبين بالنار حتماً ، فإنه ينال بشكل أو بآخر أيضاً من أولئك الأبرياء الذين ما أشعلوا في حياتهم عود ثقاب .

صليل الصوارم ، يُعزف بتوزيع جديد هذه المرة  ، يصك آذان السامعين الآمنيين بفرنسا ، ويُحيل الليل الباريسي الناعم ، إلى مواكب يختلط فيها صوت الموت مع نداء الإستغاثة ، وصوت الموسيقى مع صراخ عربات الإسعاف التي تريد أن يُفسح لها الطريق ، الرؤوس التي تعودت أن تميل طرباً ، مالت ميلتها الأخيرة ، بعد ان زرعت البداوة نبتتها الجافة في عاصمة كل ذنبها ، أنها فرحة ومرحة .
لعل أحد أهم وأخطر التعليقات من الداخل الفرنسي بعد هذا العمل الإرهابي الذي ضرب العاصمة باريس يوم الجمعة الماضية ، ما قيل أنه على فرنسا ، عدم الركون - من الآن - لفكرة كونها عاصمة النور ، أو البقاء على حالة الإسترخاء الليبرالي بوضعيته الراهنة ، الأمر الذي يعني أن تتحلل هذه المدينة التاريخية العظيمة ، ولو إلى حين ، من بعض بهاءها لحساب إجراءات إستثنائية فرضتها أجندة من هم على خصام دائم مع الحضارة .


رينه سولي برودوم
يُعتقد على نطاق واسع أن الشعب الفرنسي هو أكثر شعوب الأرض ثقافة ، وبعيداً عن كون الفرنسيين هم أكثر من حصدوا جائزة نوبل للآداب بواقع (15 مرة) حتى الآن ،وأن أحد أبناءها (رينه سولي برودوم) ، هو أول من فاز بها على مستوى العالم ، وكان ذلك في العام 1901 في النسخة الأولى من هذه الجائزة المرموقة ، فإن الفرنسيين أناس مثقفون حقيقيون ، الأمر الذي أظنه محل حسد أقرانهم الأوربيين ، فالتاريخ الفرنسي شاهد بشكل لا يقبل الجدل ، على أن التأثير الذي تركه الفرنسيون في مجالات الأدب والفلسفة والفنون ، بل والقانون  وغيرها من العلوم الإنسانية ، أكثر مما خلفه غيرهم في قطر من الأقطار ، كان هذا فيما سبق ، وهو كذلك الآن ، غريب بالنسبة لي أن يحدث ما حدث في فرنسا .

أعادتني الأحداث المريرة إلى الوراء ، وتحديداً لحقبة الدراسة الثانوية ، حيث بدا لي أحد معلمي اللغة الفرنسية ، كأنه نبيل حقيقي ، أو أرستقراطي تحدر من تلك الطبقة المخملية ، التي كانت تحكم في حقبة ما قبل الثورة الفرنسية ، وأذكر كم كنت أنظر إليه بعين مليئة بالإكبار والإعجاب ، ذلك أنه لم يكن معلماً تقليدياً للغة أجنبية فحسب ، بل حسبته غارقاً أو مستغرقاً في الفرنسية كأنها لغته الأم ، فمن خلف نظارته الطبية ، ووسامته التي كانت بادية للعيان ، تجاوز الرجل كل الحدود التقليدية لمنهج دراسي عقيم ، فقد كان يطوف بنا كل أرجاء فرنسا ، من خلال شوارعها الضيقة ، وعاين معنا الشرفات التي كانت تطل على الثوار وهم يتجهون لإقتحام سجن الباستيل ، كيف لي أن أنسى وهو ينصب خيمته على مقربة من خيام كل أولئك النفر الذين جعلوا من باريس عاصمة حقيقية للنور ، فيعطينا طرفاً من متعة جار هنا ، وطرفاً من إثارة جار هناك ، أشار مدرسنا بيده ذات مرة لذاك النابغة  ، الذي صك مقولته الخالدة ( أني أختلف معك في رأيك ، ولكنني مستعد أن أموت دفاعاً ، من أجل حريتك في التعبير عنه ) ، كان هذا فولتير .

لويس الرابع عشر
في كلية الحقوق ، كانت إحدى المواد المحببة لديًّ هي مادة (النظم السياسية والقانون الدستوري) ، حيث يًعنى هذا العلم بعرض لنظم ونظريات الحكم قديماً وحديثاً ، مع عرض الإتجاهات المختلفة الخاصة بوضع الدساتير التي هي الرباط الحاكم ، أو الناظم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وأذكر هنا أن تصدر أحد الفصول ، عبارة مقتبسة ومنسوبة للملك الفرنسي لويس الرابع عشر ، المعروف بالملك الشمس ، والتي يقول فيها (أنا الدولة ، والدولة أنا) ، وحيث أنني لديِّ بعض الميول الديكتاتورية لسبب غير معلوم لي للآن ، فقد إهتممت بهذه المقولة أيما إهتمام ، غير أن تتبعي لقائلها ، أتاح لي إكتشاف زوايا جديدة له ، ففي رسالته مثلاً لأحد أحفاده الذي كان يستعد للمغادرة ليصبح ملكاً على أسبانيا ، قال له لويس الرابع عشر :-

( لا تقرب أبداً أولئك الذين يزيدون في تملقك ، ولكن تمسك عوضاً عن ذلك بهؤلاء الذين يغامرون بإزعاجك من أجل مصلحتك ، ولا تهمل عملك أبداً لمصلحة متعتك ، نظم حياتك حتى يصبح فيها وقت للإسترخاء والتسلية ، أعط أمور الحكم كل إنتباهك ، ثقف نفسك قدر المستطاع قبل إتخاذ أي قرار ، إعمل كل ما في وسعك لتتعرف على الرجال المتميزين ، بحيث تتمكن من الإستعانة بهم متى إحتجت إليهم ، كن مهذباً مع الجميع ، لا تُسئ لأي إنسان ) .


في الختام .. وبعيداً عن الفتنة الباريسية ، وكل ألق مستحضرات التجميل ذائعة الصيت ، والعطور الفاخرة ، وعروض الأزياء ، بعيداً عن قوس النصر والشانزليزيه ، بعيداً حتى عن قصر فرساي ، بعيداً عن كل الأيقونات المضيئة ، فأنا كغيري مدينٌ شخصياً لهذه المدينة بالكثير ، مدين لها بكل ما قرأته لثلة من أبناءها البررة ، الذين ساهموا عبر السنين ، ولا يزالون في تشكيل الوعي والوجدان الإنساني في كل حقل ومضمار ، مدين لأقلام أدبائها العظام وفلاسفتها النوابغ ، الذين علمونا ولا يزالون كيف يعمل العقل ، وكيف يكون الجدل ، ما هو التسامح ، والعدل ، والإخاء ، والمساواة ، لذا فأني أعتذر لهذه المدينة التي أهان جمالها أجلاف من البادية ، كل زادهم تراثٌ يفوحُ من رائحته البارود .

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة