بقلم : ياسر حجاج
المسيرُ مهما إستقام ، لابد وأن تقطعه المنعطفات في مرحلة ما ،
والرتابة وإن إستطالت ، ستقطع فصولها المملة صرخة بطل يسقط أمام جمهوره ، ثم يشير
بيده الكليلة ، وصوته الخفيض ، أن أسدلوا الستار ، فقد إنتهت المهزلة ، فمع مغيب
شمس الإثنين الموافق 2015/12/28 ، ناولتني يدُ القدر كتاب الموت ، لأقرأ فصلاً من فصول فقه
الجنائـز ، بيد أنني وقبل أن أقلب صفحات الكتاب ، وجدتني ألهجُ بالعبارة الأشهر (
ما أنا بقارئ ! ) نعم .. فقد تدحرجت الحبة الأخيرة من العقد الناظم لجيل
الثلاثينات في عائلتنا ، فقد مات هذا الرجل الذي سخر من الحياة بأكثر مما عاشها ،
مات هذا الذي سخر من كل شئ ، وأي شئ ، فالريفي النابه ذو القسمات المنبسطة ، الذي
سكن المدينة ، عاد إلى الريف من جديد ، ليعاين اللمسات الختامية للوحة التناقضات ،
ويسخر من الحياة للمرة الأخيرة .
على كثرة سخطه وتشنيعه على كثير من عادات أهل ريفه ، حيث الميلاد
والنشأة ومرتع الصبا ، لم تُفلح المدينة - مع ذلك - في الإنتصار عليه ، كما لم
تجرؤ الإعلان عن إنتزاعها له بشكل كامل ، فلم أجده يوماً ريفياً خالصاً ، كما لم
أعهده متمديناً صرفاً ، بل عاش على الدوام ، في منزلة ما ، بين المنزلتين ، هناك
حيث البقعة المتدرجة في رماديتها ، مؤثراً الهدوء على كل ما سواه ، مجافياً لكل
ألوان الفجاجة والصخب ، لم يكن أبداً صدامياً أو مقتحماً ، تشعر
وكأنه في عجلة دائمة من أمره ، ظل على هذا الحال طيلة عمره الذي ناهز الـ 79 عاماً ،
نجح خلالها في تشييد بناءه الخاص القائم على فكرة عدم الإندماج ، فقد كان يهوى
"رحمه الله" العيش على أطراف الأشياء ، وتخوم الأمكنة .
قبل أسبوعين ، مكالمة هاتفية من أحد الأشقاء ، تحمل رسالة بينة
الدلالة (أبوك نفسه يشوفك) ، خلال الـ48 ساعة
التالية ، كنت بجواره على فراش مرضه ملبياً ، شعر بكثير من الرضا أن رآني ، صافح
وصالح ، وسامح وإستسمح ، أومأ إليَّ أن أقترب ، فلما قربتُ ، أشار لي أن أقترب
أكثر ، وكأني به يريد أن يحدثني حديث مودع ، قربت حتى شممتُ أنفاسه ، فإذا به يطبع
قبلة على وجنتي فحسب ، أخذتني على الفور رجفة خفيفة ، لم تفلح معها أدمعي المكتومة
في إعادتي إلى حال السكون ، فعاينت النار وقد تُوقدت من جوف ماء .
تطلبَ الأمرُ مني نصف قرن ونيف ، هو كل عمري ، لأعرف أن للموت رائحة
، نعم رائحةٌ تسكنُ المكان ، وتعلقُ بكل شئ تقريباً ، الفُرُش والجدران ، النوافذ والأبواب
، ولم تُفلح أعواد الريحان والنعناع ، التي كنتُ أحملها صباح مساء ، من تأجيل
العزف المرتقب ، على مقام الصبا الحزين ، وعلى طاولة الغُسل والتكفين ، كان الجلال
حاضراً ، والمهابة أكبر من أن تصفها الكلمات ، وبعين مبصرة غير أنها لا ترى ،
وبأذن مرهفة غير أنها لا تسمع ، غبتُ عن المشهد مرغماً ، ولفني الصمت إلى أبعد مدى
، وبدا أن الموت الآن يشد رحاله ، بعد أن أنجز المهمة ، وأطلق صيحته المدوية ( أنا
أمهر الساخرين) ، (أنا كبير المتهكمين) .
إنا لله وإنا إليه راجعون
والحمد لله رب العالمين
هناك تعليقان (2):
عليه رحمة الله صبّركم الله و غفر له و لأبي و لجميع المسلمين
كلمات تلامس القلب و كيف لا و انا اقرب شخص يشعر بها بعد مروري بنفس الموقف و طرق الموت بابنا ايضا ليلة الجمعة 26 / 11 / 2015
أبو عائشة " شريف محمد رمضان "
رحم الله والدكم ، وعظم أجوركم ، وشكرا على مشاركتكم .
إرسال تعليق