2016/01/02

الموتُ يطرقُ بابنا

أبي
فبراير 1937 - ديسمبر 2015
بقلم : ياسر حجاج
المسيرُ مهما إستقام ، لابد وأن تقطعه المنعطفات في مرحلة ما ، والرتابة وإن إستطالت ، ستقطع فصولها المملة صرخة بطل يسقط أمام جمهوره ، ثم يشير بيده الكليلة ، وصوته الخفيض ، أن أسدلوا الستار ، فقد إنتهت المهزلة ، فمع مغيب شمس الإثنين الموافق 2015/12/28 ، ناولتني يدُ القدر كتاب الموت ، لأقرأ فصلاً من فصول فقه الجنائـز ، بيد أنني وقبل أن أقلب صفحات الكتاب ، وجدتني ألهجُ بالعبارة الأشهر ( ما أنا بقارئ ! ) نعم .. فقد تدحرجت الحبة الأخيرة من العقد الناظم لجيل الثلاثينات في عائلتنا ، فقد مات هذا الرجل الذي سخر من الحياة بأكثر مما عاشها ، مات هذا الذي سخر من كل شئ ، وأي شئ ، فالريفي النابه ذو القسمات المنبسطة ، الذي سكن المدينة ، عاد إلى الريف من جديد ، ليعاين اللمسات الختامية للوحة التناقضات ، ويسخر من الحياة للمرة الأخيرة .

على كثرة سخطه وتشنيعه على كثير من عادات أهل ريفه ، حيث الميلاد والنشأة ومرتع الصبا ، لم تُفلح المدينة - مع ذلك - في الإنتصار عليه ، كما لم تجرؤ الإعلان عن إنتزاعها له بشكل كامل ، فلم أجده يوماً ريفياً خالصاً ، كما لم أعهده متمديناً صرفاً ، بل عاش على الدوام ، في منزلة ما ، بين المنزلتين ، هناك حيث البقعة المتدرجة في رماديتها ، مؤثراً الهدوء على كل ما سواه ، مجافياً لكل ألوان الفجاجة والصخب  ، لم يكن أبداً صدامياً أو مقتحماً ، تشعر وكأنه في عجلة دائمة من أمره ، ظل على هذا الحال طيلة عمره الذي ناهز الـ 79 عاماً ، نجح خلالها في تشييد بناءه الخاص القائم على فكرة عدم الإندماج ، فقد كان يهوى "رحمه الله" العيش على أطراف الأشياء ، وتخوم الأمكنة .

قبل أسبوعين ، مكالمة هاتفية من أحد الأشقاء ، تحمل رسالة بينة الدلالة (أبوك نفسه يشوفك) ، خلال الـ48  ساعة التالية ، كنت بجواره على فراش مرضه ملبياً ، شعر بكثير من الرضا أن رآني ، صافح وصالح ، وسامح وإستسمح ، أومأ إليَّ أن أقترب ، فلما قربتُ ، أشار لي أن أقترب أكثر ، وكأني به يريد أن يحدثني حديث مودع ، قربت حتى شممتُ أنفاسه ، فإذا به يطبع قبلة على وجنتي فحسب ، أخذتني على الفور رجفة خفيفة ، لم تفلح معها أدمعي المكتومة في إعادتي إلى حال السكون ، فعاينت النار وقد تُوقدت من جوف ماء .

تطلبَ الأمرُ مني نصف قرن ونيف ، هو كل عمري ، لأعرف أن للموت رائحة ، نعم رائحةٌ تسكنُ المكان ، وتعلقُ بكل شئ تقريباً ، الفُرُش والجدران ، النوافذ والأبواب ، ولم تُفلح أعواد الريحان والنعناع ، التي كنتُ أحملها صباح مساء ، من تأجيل العزف المرتقب ، على مقام الصبا الحزين ، وعلى طاولة الغُسل والتكفين ، كان الجلال حاضراً ، والمهابة أكبر من أن تصفها الكلمات ، وبعين مبصرة غير أنها لا ترى ، وبأذن مرهفة غير أنها لا تسمع ، غبتُ عن المشهد مرغماً ، ولفني الصمت إلى أبعد مدى ، وبدا أن الموت الآن يشد رحاله ، بعد أن أنجز المهمة ، وأطلق صيحته المدوية ( أنا أمهر الساخرين) ، (أنا كبير المتهكمين) .

إنا لله وإنا إليه راجعون
والحمد لله رب العالمين

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

عليه رحمة الله صبّركم الله و غفر له و لأبي و لجميع المسلمين

كلمات تلامس القلب و كيف لا و انا اقرب شخص يشعر بها بعد مروري بنفس الموقف و طرق الموت بابنا ايضا ليلة الجمعة 26 / 11 / 2015


أبو عائشة " شريف محمد رمضان "

البنات حسنات يقول...

رحم الله والدكم ، وعظم أجوركم ، وشكرا على مشاركتكم .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة