2015/07/31

القناة وأنا !!


بقلم : ياسر حجاج
ككل الأشياء الكبيرة ، لا أستطيع التعبير عنها بسهولة ، جغرافية مصطنعة ، عرفت طريقها إلى أطلس العالم منذ زمن ، لعل الكل منشغل الآن بإعادة رسم الأبعاد ، وإستبدال البقع الصفراء بخط أزرق دقيق ، جدول جديد نبت في عرق الوطن ، وبرهان على أن الأصالة لن تجدها فحسب مطمورة في كتب الحكمة التي صاغها الأقدمون ، نظرة إلى الشاطئ ، قدم تلامس حافة المجرى ، فشل قديم في تعلم السباحة ، الإكتفاء بلملمة السمك الذي وقع أسيراً في شباك الخال رحمه الله ، الثلج المجروش ، رائحة الفجر لدى العودة من رحلة الصيد .

في العام 1975 .. عدنا إلى الإسماعيلية بعد رحلة هجرة قسرية عقب النكسة ، تهيأت للحصول على شهادة إتمام الدراسة الإبتدائية ، وقبل أن أبدأ في التعرف على معالم مدينتنا التي هجرتها في عمر الرابعة ، يممت وجهي تلقاء بحيرة البلاح المطلة على القناة لأبدأ رحلة من المرح الطفولى الممزوج بالدهشة والعجب بهذا الممر الملاحي العتيد ، أذكر أني كثيرا ما كنت أستخدم المنظار المكبر أثناء جلوسي على الشاطئ قبل الغروب ، حيث كنت ألوح للسفن الأجنبية المارة ، وأولئك النفر هناك الذين كانوا يعتلون أسطحها ، لا أدري إن كان أحداً منهم قد بادلني التحية .

توالت رحلات الصيد ، وإلتصقت وجدانياً برائحة الماء ، وقبل أن يبلغ بي الحب الحافة ، هجرة قسرية جديدة لاحت في الأفق ، تعكرت الأجواء ، ولم تُحسب فروق التوقيت ، ولا المقتضيات المرعية ، رُسمت الصورة ، واختيرت الألوان ، بقي الإتفاق على شكل إطار ، والمكان المناسب للتحنيط على وجه جدار ، لم يكن الأمر على هواي ، كانت الحركة على الأرض تفرض هيبتها ، لم يكن لي أن ألاطم الريح أنذاك لوقت طويل ، وقبل أن ترسم الهزيمة المذلة خطوطها الغائرة ، بدأت في خطة إنسحاب ، لا أعلم الآن إن كان منظماً بدرجة كافية ، لكني على ضوء تحليل النتائج بعد عدة عقود ، أستطيع التأكيد أنني قد نجوت بنفسي ، ولكن الثمن كان باهظاً .. الحياة كلها ، فقد غادرت المدينة الرائعة ، للبحث على بصمة وراثية متطابقة ، أزعم الآن أنني لم أجدها .

قناة السويس الموازية هيجت الذكرى ، ونكأت الجراح من جديد ، منذ أيام كنت قي زيارة لبعض من أفراد العائلة هناك ، كان حديث القناة يتصدر الجلسات ، الآمال المعقودة كثيرة ، والأماني باتت على مرمى حجر ، عدت إلى الوراء كما هي عادتي ، هل من عودة قريبة إلى مدينة ميلادي ، وموطن صباي ، ولو حتى في مناسبة كرنفالية ؟ لا أعتقد هذا  ، ففي اليوم الذي يصادف إفتتاح القناة ، سأكون ُملقىً على مقعد طائرة ، مخلفاً ورائي تاريخ قديم كأنه حبيبات الجمر المتناثر ، مازالت حرارته تسكن الأمكنة ، وتتسرب إلى الشقوق رغماً عني ، وكمالك الذي هو خازن النار ، أقف بوجه بارد يعلوه الحياد ، أقلب الجذوة بعود من حديد ، لكي لا تبرد الذكرى ، ولا يخفت بكاء السنين ، ولتبقى من بعد ذلك أكوام الملح تعالج الجروح ، ويعلو صوت الأنين .

مدينتي الصغيرة التي تخترق خاصرتها قناة السويس ، لم تتح لي فرصة كافية لممارسة فنون العناق ، مازال أملي كبير في أن أتمكن من تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ومع كل تطمينات الأهل ودعاء الأقربين ، أغادر من جديد ، مخترقاً طرقاً ومدناً ، هنا ... لافتة صادمة على الطريق تقول : محافظة الإسماعيلية .. صحبتكم السلامة .

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة