بقلم : ياسر حجاج
يأتــــي النداء الأول
فالثاني .. ثم الأخير
السيد ............................................. برجاء التوجه إلى البوابة رقم ( ) تمهيداً للسفر .
تباً لكم ، فلست متأخراً، فقط كنت في الجوار ، في
المكان المشبوه ، مأوى الرجال سيئ السمعة ، غرفة المدخنين ، جنسيات عديدة ، وأعمار
متنوعة ، ماركات سجائر ، كثير من الرماد ، قداحات ، وعلب كبريت ، جبال من الدخان
بالطبع ، هنا نادراً ما أدخن على عجل ، بل
لعله المكان الوحيد الذي أدخن فيه بتؤدة ، وكأني أعمل على بلورة نظرية جديدة ، انظروا
أيها الأوغاد كيف أرسم صورتي بخيوط الدخان ، ذاك الذي يتحدث بكل اللغات ، لا
يقطعه غالباً سوى رشفة شاي أو قهوة ، أو ضحكة مباغتة من هذه الحسناء التي توشك أن
تغادرنا إلى برلين ، فلتحيا الوحدة الأوروبية .
*****
-
مرحباً .. سيدي ما هو رقم مقعدك ؟
-
آخر مقعد بالطائرة .
- "مندهشة " .. المقعد الأخير بالطائرة .. هل
أنت متأكد ؟
- نعم .
ثم بعربية ركيكة ، وإنجليزية تدعو للتقيؤ ، رئيس طاقم
الضيافة بالطائرة يُلقي البيان الأكثر مملاً في عالم الطيران : نحن على ارتفاع
أكثر من 30 ألف قدم ، وسرعة الطائرة 850 كم/س ، ثم يستعرض بياناً عن درجة الحرارة
في الخارج ، يتلو ذلك عرض فيديو لا يهتم أحد بمشاهدته غالباً عن الخطوات الواجب
إتخاذها حال الطوارئ ! ليتها تسقط يا عزيزي ، فينفض كل هذا السامر ، وليذهب
كل منا إلى هناك ، للعثور على أجوبة نموذجية عن كل الأسئلة الإجبارية ، بالمناسبة
، لما لم تكن هناك الكثير من الإختيارات ؟ .
أكثر من ستة صفوف أفقية شاغرة قطعتها المضيفة قبل أن تصل
إلى مقعدي في آخر الطائرة ، فقط لتسألني عن الوجبة المفضلة لدي ، ثم بلهجة ودودة
:-
- حضرتك قاعد في الآخر ليه ؟
- هذا ما بدا لك ، نظرة عكسية ستثبت لك أنني أجلس في
مقدمة الطائرة .
تركتني
بعد أن رسمت إبتسامة باهتة إقتضتها ظروف الحال ، وكأن لسان حالها يصرخ : كم معتوه آخر
على متن هذه الطائرة ! .
ليلاً
.. رحلاتي المفضلة ، النافذة الجانبية لا تشي بشئ ، لا أضواء قادمة من بعيد ،
سباحة في الظلام ، أفكار هي خليط بين الأمل والرجاء ، ضحكات مكتومة لصدى من
الذكريات المرحة ، كابتن الطائرة يلقي الآن بالبشارة : على الجميع ربط أحزمة
المقاعد ، فنحن نقترب من مطار القاهرة ، دقائق بعدها حتى ألقيت على سمار وسهارى المحروسة
تحية المساء .
يُكتب تاريخ بعضنا أحياناً في المطارات ، أختام المغادرة
، أختام الوصول ، وما بينهما سرد بائس من اللزوميات التي لا لزوم لها ، الخامس في
الطريق ، فأربع جوازات سفر سابقة ، لم تكن كافية على ما يبدو لإنجاز المهمة ،
صفحات إضافية ربما من الجواز الجديد ستكتب فصلاً أو فصولاً جديدة من مسرحية يصعب
تصنيفها تحت عنوان واحد كبير ، لما أشعر الآن أنني قد عشت أكثر من اللازم ؟ .
*****
خيالي لم يزل قديمــاً !
أناقة في وجه المرايا .
حامل حقائب هدايــــا .
وسلال من الحكايــــا .
وأدمع
تصف الشكايـا .
ثرثرة نبيلة تعود ، يا لقدم الهوايــة .
شفاه محنطة تــاقت لأزمنة الغـواية .
*****
أخيراُ سأصافح غرفة مكتبتي .. في هذا الركن ، كان سفر
الفتنة الكبري ، لم تصغر قط إبنة اللعينة ! كل شئ هادئ في الميدان الغربي ، لم يعد
الأمر كذلك مستر ريمارك ! التاريخ هنا مرصوص بإتقان على أرفف متربة ، يستعد في صمت
لكتابة مطولات جديدة في فنون المناورة والرياء ، يا لمكتبتي المتخمة بالكذب !
بات الحياد سيد الموقف ، الملامح تغيرت ، والمعاني تماهت
، والنكهات طغي بعضها على بعض ، أين الوطن ؟ يفعل السفر بي أكثر مما ظننت ، لا يتعلق الأمر حقاً بملامح
مستحدثة ، ولا تغير في أرقام الأعمار ، أو حتى في أرصدة الحسابات ، السفر حاصل جمع
وطرح مضروب في أعداد لا نهائية غير قابلة
للقسمة على إثنين وفق أي قانون رياضي ، السفر حالة موت وميلاد في آن ، شكل من
أشكال التداخل غير المفهوم أحياناً ، فلا أنت حي بشكل كاف ، ولا أنت ميت أيضاً
بشكل تام ، كأصحاب الأعراف الذين لا يعرفون على الأرجح أي نهاية ستكلل مسيرة حياة
أحدهم ! بين حل وترحال قرابة الربع قرن ، كل شئ نسبي ، لا شئ مؤكد تقريباً بالنسبة لي ، سوى
حقيبة سفري .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق