2011/08/08

(3) أبو الهول ثائراً


بقلم : ياسر حجاج
قد تقف مشدوهاً في معرض لوحات ، يشُدك الرسم حيناً ، تلفتك الألوان حيناً ، يأخذك المعنى والمغزى حيناً ، ولكنك نادراً ما تجيل بصرك خارج اللوحة ، فتتأمل مثلاً الإطار المحيط بها ، أو بقعة الضوء التي تسلطت على الجدار الذي عُلقت عليه ، أو حتى ماهية الزوار الذين تعلقت عيونهم بها ، وقد تساءل نفسك في لحظة تجلي صوفية عن طاقة النور المنبعثة في احد أركانها ، وما إذا كانت هذه الطاقة تحديداً هي ما مثلت الوعي الإبداعي للفنان ، فدفعت خياله إلى أن يمسك بالريشة ، ويمزج الألوان ، ويترجم أحاسيسه إلى صور وأشكال ناطقة وصارخة ، وصامتة أحياناً ، وباكية ومنزوية أحايين أخرى .

بدأت لي الثورة المصرية كلحظة مصمتة وجافة إلى حد الخشونة ، وبدأ زخمها مع الوقت يصل بها إلى مرحلة من الإمتلاء والسيولة ، بفعل العرق والدماء ، ووصلت حتى كتابة هذه السطور بفعل اللا وضوح ، إلى مرحلة اللزوجة ، فلا هي بقيت جافة ولا هي إنتهت سائلة ، وهذا هو المسار الأخطر ، ليس في الثورة المصرية فحسب ، ولكن في أي شئ أريد له أن يكون على شفير الهاوية والنجاة معاً ، فلا هي ميتة تماماً ، ولا هي حية بدرجة كافية ، فهي للآن ثورة مبتسرة ، لم تكتب لها بعد أسباب النمو الطبيعي والتعافي في بيئة صحية خالية من فيروسات أصحاب المصالح وأنصاف المواطنين .

لم أجد خدعة كبرى على كثرة ما قرأت سوى ما يروى عن نصف الكوب الممتلئ ، ونصفه الآخر الفارغ ، فأصحاب النصف الممتلئ لن يجدوا صعوبة في إقناعك بأن نصف الكوب أفضل ألف مرة من وضعيته الفارغة ، وأن ما لاُيدرك كله لا ُيترك كله ، أما أصحاب النصف الفارغ ، فسيجدون منطقاً معقولاً ، عندما يأكدون لك أن أخطر مراحل الرحلة أن تنزل في منتصف الطريق ، فلا أنت بقيت حيث كنت ، ولا أنت وصلت حيث أردت ، وما بين المنطقين في الواقع تدور رحى الحياة ، فيراها بعضهم تطحن لك دقيقاً لتأكل ، ويراها غيرهم تطحن لك ماءاً ، وربما وهماً أيضاً .

بدأت الثورة المصرية كنتيجة منطقية لمقدمات غير منطقية ، وفي بواكيرها كنت أرى أن أخطر مراحلها قد تمثلت في ترسيخ سابقة تمثلت في إستحداث سلطة شرعية رابعة بجوار السلطات الثلاث ( التشريعية – التنفيذية – القضائية ) وهي سلطة الشارع بكل ما يموج فيه من أصحاب مشروع فعلي وصادق ، إلى أصحاب هوىً ومصالح ، إلى أفاكون وقطاع طرق ، فالكل تلبس بالثورة وتزيا بزيها ، وبات لفظ الثائر له جاذبية شخصية أخاذة في نفوس الكثيرين ، فلا شئ يضاهي أن يوصف شخص ما بأنه ثائر أو مجاهد أو مثابر ، إلى ما هنالك من هذه التسميات البديعة ذات الأغطية الشفافة ، التي وإن صدقت في حق البعض ، فإنها أبعد ما تكون عن بعضهم الآخر ، ومع صعوبة الفرز تكمن الأفخاخ .

بالعودة إلى لوحة الثورة ستتسع حدقتك بالتأكيد ، وأنت تشاهدها وتتمنى ربما أن تكون أكثر إتساعاً فتشمل شخوص وأسماء غابت عن المشهد ، وإن بشرت أو نادت به ، وستتمنى لو أن عُقد حياة هؤلاء لم ينفرط دون معاينة اللحظة والشعور والإمتلاء بها ، وفي ذات اللحظة ستضيق حدقتك ربما رغماً عنك هذه المرة ، فتختفي من اللوحة شخوص وأسماء أخرى تلبست بالثورة تلبس من لا يجيد فن الأزياء ولا تراتبية الألوان ، فباتت الأزياء الجديدة والمستحدثة أكبر حجماً من أن يملؤها أحدهم بقوة حنجرته أو طول ذراعه ، ولكنها على حال ، الثورة التي تتسع للجميع فتضمهم تحت عباءتها فيخرجون لاحقاً من أكمامها كأنبل ما يكون عليه المرء من حميد الخصال والمشاعر ويولد الجميع من جديد حاملين الأسم الأزهر والأبقى والأكثر جاذبية وحصرية في عالم الثورات الشعبية وهو إسم ( الثائر ) ، وللحديث تتمة .

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة