2014/08/02

صديق العمر !!


من يكتب التاريخ ؟
التاريخ هو أكثر العلوم الإنسانية التي ينبغي التعاطي معها بحذر بالغ ، بالنظر إلى النتائج التي يمكن إستخلاصها منه ، الآن وفي المستقبل ، وفي تقديري أن الكثير من المشكلات التي تواجه الأمم والمجتمعات لا تكمن في عجزها عن إستخلاص العبرة أو العظة ، بقدر كونه عجز عن قراءة الحدث التاريخي كما وقع فعلاً ، لا كما تم تصويره أو إبرازه ، فكلما كان تاريخ الشعوب واضحاً وصادقاً رغم المرارات التي تكتنفه أحياناً ، كلما كان ذلك عاملاً مساعداً وبشدة في ضبط إيقاع هذه الشعوب في سنيها الحالية والمستقبلية ، وكلماً كان هذا التاريخ مرتبكاً أو شائهاً ، كلما تنكبت هذه الشعوب الطريق لإنقطاع حبلها السري الذي يربطها بماضيها .

فقليلة هي الواقعات التاريخية المُجمع على صدقيتها ، وعلمية توثيقها ، ونزاهة رواتها ، وأمانة عرضها ، لذا أتعامل مع الأحداث التاريخية قديمها وحديثها بمنطق المستدرك المحتاط ، ( هذا .. والله أعلم ) ، ففي حقل الظنون من العسير جداً إستنبات زهرة يقين واحدة .

عودة إلى سؤالنا .. من يكتب التاريخ ؟
على وجه القطع واليقين ، لا توجد إجابة واحدة عن هذا السؤال اللعوب ، وأرجوك أن لا تصدق أن التاريخ يكتبه المنتصرون وحدهم ، فالمنهزمون أيضاً يكتبون ، ويبدو لي أنهم في حاجة لتبرير الهزيمة بقدر وجهد أكبر بكثير من محاولة المنتصرين التأريخ لأسباب نصرهم أو نجاحهم ، فالنصر لحظة برق لامعة ، بينما الهزيمة ليل طويل من العار .

يكتب التاريخ فيمن يكتبه أجهزة المخابرات ، والجهات الرقابية ، والجواسيس ، والعملاء  ، ومؤرخون أكاديميون ، وأفاكون ، وأناس طيبون ، وظرفاء أخرون ، جلهم ينهل من ذات المعين تقريباً ، وإن يكن بزوايا مختلفة ، قصاصة خبرية من هنا ، ورق صفراء ذابلة من دفتر تحقيق هناك ، رأي من هذا الجانب ، إستقصاء من جانب آخر ، وما على ماكينة الطباعة سوى جمع كل هذا الشتات ضمن مغلف أنيق ، وصور ذات دلالة ليكون بين يديك كتاب للتاريخ , صحيح أن للتاريخ مناهج علمية في كتابته ، غير أن هذا لا يعني أنك سوف تقرأ بالضرورة كتاباً رصيناً موثقاً محايداً وموضوعياً ، إن المناهج العلمية لن يكون لها أي قيمة تُذكر أمام لعبة السياسة ، وأهواء من يكتبون .

والحقيقة في كل ذلك ؟
لا إجابة واحدة أيضاً عن هذا السؤال ، فهل تقصد الحقيقة التي تراها أنت ، أم الحقيقة التي يراها غيرك ، أم الحقيقة كما وقعت فعلاً ؟ بل أنه في إطار الحقيقة التي وقعت فعلاً فهناك ألف حقيقة وحقيقة ، الأسباب والدواعي ، الظروف والملابسات ، التأثيرات والنتائج ، المبررات والموائمات ، وفي سياق كل تفريعة ستجد ألف تفريعة وتفريعة ، وستغرق كمتابع أو قارئ – إن لم تكن واعياً - في هوى نفسك الذي يدفعك إلى تبني وجهة النظر التي تنتظم توجهاتك أو أراءك ، دون بذل أي جهد حقيقي لمحاولة الوقوف على الحقيقة مجردة كما هي ، وبمرور الوقت يتحول الأمر برمته إلى مجموعة من الرؤى والإجتهادات ظنية الثبوت ، ظنية الدلالة ،ومن بعد ذلك فأنت مطالب بأن تصدق أن هذا هو التاريخ ! .

*****
تابعت مسلسل صديق العمر الذي يحكي قصة العلاقة التي جمعت بين الراحلين الرئيس جمال عبد الناصر ووزير دفاعه المشير عبد الحكيم عامر  ، وما كان صبري على متابعة المسلسل طوال حلقاته الثلاثون إلا محاولة الوقوف على حقيقة وظروف وفاة المشير عامر التي لم يجرِ التطرق لها إلا في الحلقة الأخيرة من المسلسل بمشهد وحيد وصامت وإن كان لا يخلو من دلالة ، فلم يقل المسلسل كيف كانت نهاية المشير الأليمة ( قتلاً أم إنتحاراً ؟ ) ، وظلت الإجابة كما كانت دائماً حائرة بين مذكرات رجال المرحلة آنذاك وبين تقارير الطب الشرعي والتحقيقات  ، مع إدعاءات وتشنجات من بعض أفراد أسرتي الراحلين ، فهل هكذا يُكتب التاريخ في بلادنا التي يراد لها النهوض والنمو ، وهي مازالت عاجزة عن البوح بحقيقة قارب عمرها نصف قرن من الزمان ؟ إن كثيراً ممن يتصدون لكتابة التاريخ ليسوا سوى شهود زور أو شياطين خرساء ، كان ذلك فيما مضى ، وهو كذلك الآن .

                                                                      *****
نظرت مرة إلى أرفف مكتبتي المزدانة بكثير من الكتب التاريخية والتراثية وقلت في نفسي بعد تنهيدة إقتضتها ظروف الحال ( يا لغرفتي المتخمة بالكذب ! ) ، غير أنني لم أجرؤ ولو مرة واحدة على محاولة التخلص منها ، ذلك أنني مازلت أحتفظ بود قديم لزمن لقاءنا الأول الذي يعود في جزء منه إلى أكثر من ثلاثة عقود ، عجيب حقاً أمر الوفاء عتدما ينحصر في الذكرى وليس في شئ سواه  ، إن التاريخ الوحيد الذي أصدقه هو تلك السطور التي أخطها بيدي والتي يحتويها دفتر يومياتي ، وأجمل ما فيها أن أحداً لن يهتم بقراءتها .

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة