بقلم :
ياسر حجاج
غطاء رأس منحسرٌ
قليلاً عن مقدم شعر الرأس ، عينان دامعتان ضارعتان ، تستمطران أملاً أو رجاءاً ،
جفنان يبتهلان في خشوع ، وعلى أهدابهما نضجت بذور اللوعة والشكوى ، وجه مُترع
بالألم والحيرة ، لكن بالتأكيد لا تنقصه البراءة ، وكأني به أتي للحياة ليجسد دور الفطرة في
أبسط صورها ، وأدق معانيها . لو قال لي أحدهم أن هذه صورة مُتخيلة لزوجة
نبي لصدقته ! .
ها أنا من جديد ،
أدفع ثمن التوقف أمام التصاميم الخاصة بأغلفة بعض الكتب ، فما أن يشعر البائعون بإطالة
نظري أمام غلاف ما ، حتى يقدموا لي - من فورهم - الخدمة التي لم أطلبها ، والمشورة
التي لم أنتظرها ، هذه المرة أتي الصوت من خلفي :-
- سيدي هذه رواية ممتازة ، وظني
أنك لن تندم إذا قررت أن تشتريها !
لم ابذل أي مجهود
بالطبع لأدرك أن الصوت المُترع بالجدية - الذي أتى لتوه من وراء كتفي - هو صوت
أنثى ، وأنها على الأرجح بائعة المكتبة ، أفي ذلك شك ! إستدرت لأتحقق من
مطابقة الصوت مع الصورة التي رسمتها على عجل ، فلم أجد أحداً قبالي ، وأدركت أنه
يتعين علىَّ أن أنزل بمستوي بصري من القامة الأفقية المستقيمة لطول يناهز الـ190
سم إلى ما دون ذلك ولو قليلا ، لأتحقق من مصدر الصوت ! نعم .. الآن وجدتها ، إنها
أنثى ، ألم أقل ذلك ؟ شقراء مكتنزة ، متوسطة القامة ، نظارة طبية سميكة ، لباس ذو
حشمة ، جديرٌ بمن لامست خط النهاية للعقد الثالث من عمرها ، وما أن إنتهيتُ من
عملية (المسح الضوئي) للبائعة ، حتى بادرتها قائلاَ :-
-
حسناً .. غير أنني لم أسمع أبداً عن هذه الرواية
، كما أن إسم الكاتبة أيضاً ، لم يسبق وأن وقعت عليه عيناي من قبل !!
بدا أن محاولتي الساذجة للإفلات من شراء الرواية (المجهولة) ستُمنى بالفشل ، بعد أن أبدت البائعة
إستغرابها من جهلي بإسم الكاتبة ، أو حتى بالراوية التي تكاد تنفذ طبعتها السابعة
والعشرون ، والتي بين يديَّ الآن إحدى نسخها بالطبع ! عدتُ وطالعتُ غلاف الرواية ،
ورأيت فيه شيئاً يستحق التأمل من جديد ، ثم جاء العنوان المثير ( في قلبي أنثى عبرية ) لأبدأ من بعده في تحسس
حافظة نقودي ، فقد عزمت أخيراً على شراء الرواية لكاتبتها التونسية د. خولة حمدى .
الكاتبة
التونسية
د.
خولة حمدي
|
تعاقب عليًّ الليل
والنهار ثمانون مرة بالتمام والكمال ، قبل أن اخوض الغمار ، وتواتيني الشجاعة
لمجاوزة حدود الغلاف ، والنظر إلى ما وراءه من سطور ، فماذا وجدت ؟ تقول الكاتبة
" هذه
الرواية مستوحاة من قصة حقيقية ، خطوطها العريضة تنتمي إلى الواقع ، وشخصياتها
الرئيسية كانت / مازالت أنفاسها تتردد على الأرض ، لكنها (أي الرواية) لا تخلو من
مسحة خيال مقصودة " .
كان هذا التنويه
ضرورياً من الكاتبة ، ويبدو لي أنه ينطوي على إحترام منها للقراء ، وإن كان سيُحدثُ بعض
الإرتباك لدى عدد منهم ، فقد يصعب عليهم التمييز أو التفرقة ما بين الواقعي
والخيالي في أحداث الرواية ، وإن كان هذا جزء من متعة القراءة والإثارة المنتظرة
منها ، والحقيقة أن الرواية قد حفلت بالكثير منها ، على الرغم من أنها لم تكن من ذاك النوع المفعم بالنثر المتوهج ، إلا أن النسق الذي كُتبت به كان سهلاً ، عفوياً ، مباشراً ، وصادقاً .
في تقديري فإن الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها الرواية بصفحاتها الـ386 ، هي المعتقد الديني ، وما له من تأثير مباشر في بناء العلاقات الإجتماعية لكل منا ، ولكونه أيضاً المرجع الأهم عند الحاجة إلى تقييم أي من هذه العلاقات ، أو حتى عند النظر في إستمرارها من عدمه ، هذا فضلاً عن إلقاء الضوء ولو من بعيد على الثقافة الحاكمة للعقلية العربية ، ومدى نضجها أو صلابتها ، لدى التعامل مع أطراف أخرى لا تشاركها ذات الدين أو المعتقد ، بدا ذلك واضحاً من خلال شخصيات الرواية الرئيسية والثانوية ، الذين توزعت معتقداتهم ما بين (اليهودية والمسيحية والإسلام) ، ولعبوا أدوارهم على مساحة جغرافية محددة (جزيرة جربة التونسية - الجنوب اللبناني) .
في تقديري فإن الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها الرواية بصفحاتها الـ386 ، هي المعتقد الديني ، وما له من تأثير مباشر في بناء العلاقات الإجتماعية لكل منا ، ولكونه أيضاً المرجع الأهم عند الحاجة إلى تقييم أي من هذه العلاقات ، أو حتى عند النظر في إستمرارها من عدمه ، هذا فضلاً عن إلقاء الضوء ولو من بعيد على الثقافة الحاكمة للعقلية العربية ، ومدى نضجها أو صلابتها ، لدى التعامل مع أطراف أخرى لا تشاركها ذات الدين أو المعتقد ، بدا ذلك واضحاً من خلال شخصيات الرواية الرئيسية والثانوية ، الذين توزعت معتقداتهم ما بين (اليهودية والمسيحية والإسلام) ، ولعبوا أدوارهم على مساحة جغرافية محددة (جزيرة جربة التونسية - الجنوب اللبناني) .
أهدت المؤلفةُ هذا العمل لثلاثة من شخوص روايتها ( ريما ، ندى ، أحمد ) ،
أما ريما .. فصبية تونسية ، مسلمة ويتيمة ، شاءت أقدارها أن يكفُلها يهودي
، ويتعهد تربيتها في منزله ، وذلك بعد وفاة أمها ، عاملها كأب حقيقي ، بل كانت في
كثير من الأحيان أقرب إليه حتى من أبنته وإبنه ، إذ كان يشعر بحبها ومودتها له ،
وكيف لا وهو (بابا يعقوب) كما كانت تناديه دائماً ، فقد كان يذهب بها حتى إلى المسجد وينتظرها خارجه ، ريثما
تنتهي من دروسها الدينية . تطورت الأحداث بسرعة ، حيث ضاقت زوجة يعقوب يهودية الديانة بريما ،
وخشيت من تدينها المتنامى ، وما قد يترتب على ذلك من تأثير على المسار العقدي
لإبنها وإبنتها ، ولم يجد يعقوب حلاً ، وحفاظاً على منزله من التداعي ، إلا أن يرسل
ريما لأخته المقيمة في لبنان للإقامة عندها ، بمرور الوقت قامت الأخت بإستنقاذ
الصبية من بين براثن زوجها الذي كان يؤذيها ويضربها ويهينها ، فأودعتها بدورها عند
صديقة يهودية لها كضيفة لبعض الوقت . تمر الأيام ، فتستذلها ربة المنزل الجديدة ، وتكلفها ما لا تطيق من أعمال ، نظير
المأوى والطعام ، والصبية ثابتة وصابرة ، تمنى النفس بعودة قريبة إلى مرتع صباها في تونس وبابا يعقوب ، غير أنها لم تكن تعلم أننا أحياناً
ندفع أثمان بلا جريرة ، فقضت الفتاة لاحقاً في غارة إسرائيلية على الجنوب اللبناني
، بينما كانت ذاهبة لقضاء حوائج منزل سيدتها ، ماتت ريما غريبة ووحيدة ! .
عند ذلك القدر توقفت عن القراءة ، ونحيتُ الرواية جانباً لبعض الوقت ، فقد
إضطربت أنفاسي حقاً ، ودمعت عيناي ، إلى حد النشيج المكتوم ، لم أكن أظن أنني سأكون قادراً على
إكمال القراءة بدون ريما ، وجدتني أكتب على الجزء الفارغ من الصفحة رقم 162 التي
شهدت وداعها ... أين أنت يا ريما !
أكملت الرواية لاحقاً في خمس جلسات مطولة ، حيث عاينت المزيد من الأحداث
والمواقف الإنسانية اللافتة ، والتغيرات الدرامية ، وكذا النهايات السعيدة من خلال الشخصيتين الرئيسيتين ( ندى الشابة اليهودية التي أسلمت والتي باتت شبه داعية ، والتي تزوجت لاحقاً من أحمد ، ذاك المسلم اللبناني المقاوم ، العائدة له ذاكرته بعد غياب ) . والرواية على العموم مفعمة بالأحداث ، وستتباين ردود أفعالنا تجاهها بالنظر إلى الثقافة الشخصية لكل منا ، بقي التنبيه إلى نقطة جوهرية ، وهي التذكير بأن النص ملكٌ لكاتبه ، والتأويل ملكٌ لقارئه ، أما بالنسبة لي ، وبعد قراءة هذه الرواية ، فإنني مازلت أهتف صدقاً .. أين أنت يا ريما ! .
الرواية : في قلبي أنثى عبرية
الكاتبـة : د.خولة حمدي
الناشـر : كيان للنشر والتوزيع - القاهرة