بقلم : ياسر حجاج
في البدء كانت الغفوة ، التي هي دون المنام وفوق
اليقظة ، الغفوةُ توقيتٌ كوني معتمد للجمال ، حيث تعودت أن أستعير خلاله - ودونما
إستئذان - هدهد سليمان ، ليأتيني بخبر ، ولو بنصف يقين .
لا علم لي !
ولكنني أظنها كذلك ، فهي بالنسبة لي اللحظاتُ الأقربُ للحقيقة ، الأكثرُ ألقاً
ربما ، لعلها أيضاً هي الأكثرُ صفواً ، غير أنها مع ذلك ، لا ينهض عليها
حكمٌ ، ولا يُؤخذ بها كدليل ، شأنها في ذلك شأن كل الروائع ، التي تحف بنا وتخالطنا
، ولكننا أبداً لا نستطيع أن نشير إليها بحسبانها شواهد ، أو إمارات ، فمن بين
جميع الأوقات ، تبقى الغفوات بثوانيها القليلة ، ولحظها الخاطف ، أوفى الرفاق وأحب
الأطياف ، غلالة شديدة البياض ، كأنما إقتطعت من سحاب ، تأخذنا بعيداً ، بعيداً
جدا ، هناك .. إلى ما وراء كل شئ وأي شئ ، لنعاين بأنفسنا كيف تجري الأمور من خلف
الكواليس ، لنعود - بعد هنيهة - وقد إمتلأت نفوسنا بصور وأصوات ، همهمات وهمسات ،
وبينما نتفقد صيد خواطرنا ، نجد السلال قد غدت خاوية ، إلا ما عساه يكون قد بقيَ من
أثر الهالة الناعسة .
شتاءٌ ككل الأشتية ، لملم كل ما تبقى في أخيلتنا
الكسولة ، بعد أن توارينا - خلال شهور مضت - خلف أغطية كثيفة ، وارتشفنا ما يكفي
من مشروبات ساخنة . شتاءٌ يصطحب خلفه ألواناً من الشجن والركون والطقوس البائسة ،
ليس أقلها المغادرة مبكراً إلى الفراش ، والعمل على إستنبات ذكريات دافئة بأي سبيل
. شتاءٌ الوحشة والرحيل ، فيه نملُ الكتابة أو تملُنا ، لا فارقٌ كبيرٌ هنا
، فالمحصلة بالنسبة لنا بقيت واحدة على الدوام ، وهي أن الغواية بقيت في حدها
الأدني ، واقتصر الأمرُ على تحرشٍ بارد ، لم يجاوز فكرة الملامسة العابرة للوحة
مفاتيح وشاشة حاسوب ، لكننا نوقن أن القصاصات المتناثرة في زوايا الذاكرة ، ستجد
يوماً سبيلاً للإلتئام ، لا تضطر معه إلى الإنتظار هكذا ، حائرة ومترددة .
الغفوات هي وسائل جديدة للتعبير ، أو
فضاءات أرحب للسخرية والضحكات ، حيث مراتع كل الصور البديعة ، واللقطات الموحية ،
والتقاطعات الغامضة ، والتي لن يُفلح أي شامبليون جديد في فك رموزها ، فنظل -
والحال كذلك - في مأمن من صفاقة الفضوليين.
ولإعتبارات لها علاقة بالملائمة ، نعلمُ أننا
لسنا بقادرين على سكب ألوان فوق جُدر ، أو حتى إلى معاودة الحفر على الأشجار
العتيقة بالجوار ، كما لم يعد معقولاً أن نبدد العشرية السادسة من أعمارنا في
(شخبطات) غامضة إمعاناً في التعمية والمداراة ! ، الغفوات مخرج معقول جداً لكل هذه
الإشكالات .
*****
هيا بنا .. نغفو !!
من تحت فراشٍ مترع بالضجر والتأفف ،
أملتُ في نوم هادئ ، لا تقطعه الضلالات ، ولكن كيف السبيل ، والضجر بذرة ثورة ،
والتأفف مشروع هياج ؟ لا بأس ، فليكن الأمر كما يكون ، لا أعلم مقدار الوقت الذي
مضي ، حتى لاحت أخيراً البشائر ، فهاهما الجفنان يشرعان في إسدال أستار من السكون
والطمأنينة ، على العينين المسكونتين بالقلق والحيرة ، شعرت بتخدر أطرافي ، وإتسعت
قليلاً فرجة من فمي ، لرسم إبتسامة الإستسلام لسلطان الغفوة ، ذلك الحاكم للأحجبة
الرقيقة ، فأُخذت من فوري ، وحُملت على فرشٍ ناعمة ، وبُسطٍ ساحرة ، حتى خلت نفسي
أكثر خفة ، وشعرتُ بصفاءِ غير معهود ، وإذا بي - وبفعل النشوة الجامحة -
أناطح مُلك سليمان إبان غابر الأمجاد ! .
نعم .. ففي الغفوات تُهتك الأستار برفق
، فأرى بأعين حالمة وأسمع بأذن واعية ، ما لن أراه أو أسمعه وقت يقظتي أو
منامي ، رأيت بكل وضوح ملائكة سارحة في الطرقات ، ومخلوقات شفافة هائمة في الفلوات
، وعراكاً ودندنات مهيبة في الفضاء الفاصل ما بين السماء والأرض ، أرواح صاعدة
وأخرى هابطة ، وعلى مد البصر كان هناك أناساً يعكفون على حجارة بيضاء يقطعونها من
جبل عظيم ، ثم يعودون فيقومون بتشذيبها وتسوية نتؤءاتها وحوافها ، حتى تبدو وكأنها
ألواح كتاتيب تعلوها القدسية والبراءة .
وجدتني أُمسك بحجر منبسط ،
متوسط الحجم ، ثم تناولت قادوماً صغيرا ، وأزميلاً دقيقاً ، إنتحيت جانباً ، وجلست
أرقب لحظات الغسق خجلى وبطيئة ، وهي تشرع في بسط حمرة قانية على الوجود ، وعلى
صفحة الحجر الأمامية الملساء ، شرعتُ في النقش ، فما أجودها من هواية ! فالنقوش
على أية حال ، لا تحمل أدلة إدانة كافية ، وإنما هي على أكثر تقدير ، ليست سوى
قرائن جدية على أنني قد جاوزت الخمسين بالفعل ، وأحاول جاهداً - وبلا مبرر ظاهر -
قلب معادلة مستقرة في معطياتها ، حاسمة في نتائجها ! .
نقشت في البدء ، جياداً بسروج مطهمة ،
تسير بعُجب لافت ، تتقدمها قطعان الكبوش والنعاج مفسحة لها الطريق ، ومن أمامها
الكواسر والذئاب لضبط الحركة والإيقاع ، وعلى جانب المسير الأيمن ، كانت القطط
والفئران تسير جنباً إلى جنب في مودة وتراحم ، بعد أن طووا جمعُيهم صراعاتهم
التاريخية الخالدة ، فلم يند عنها صوت مواء أو نهيز ، . وعلى الجانب الأيسر ، كانت
الحملان والأرانب تجد في مسيرها بكل وداعة ، لا يكاد يشعر بوجودها أحد .
وغير بعيد في الأفق ، كانت الطيورُ تحلق في
أسراب منتظمة وصامتة ، تظللُ في عليائها الموكب الذي يحرث الأرض حرثاً ، في طريقه
إلى ساحة الحكمة ، هنالك عند تلك البقعة البعيدة ، فيما وراء الأفق ، وبدا أن
الموكب في مسيره ، قد جلله الخشوع والإيمان ، وعلى مد البصر ، إذا بالشمس تشرعُ
الآن في لملمة ما تبقى من خيوطها المذهبة من على صفحة الزمن الفاني ، وها هي
الظلال بدأت في الإنحسار تدريجياً ، غير أن لا أحد حتى الآن رغم طول المسير ، قد
خرج عن طور الجدية المفترضة ، فالأعين كانت معلقة بشفا ربوة عالية ، حيث يقف هناك
، أمين بيت الحكمة ، ليخطب الزمرة الآتية من بعيد ! حيث أشار للجمع القادم بالوقوف
حيث هم ، ثم أمر الطيور فأخذت مواطئها ، ثم ساد صمت رهيب ، وهم يرونه يبدأ في بسط
لفافة عتيقة ، حيث إبتدرهم مرحباً ، ثم شرع يقول :-
{ أعزائي .. تعرفون ما نحن مُقدمون
عليه لقد كان لكم في أيام دهركم نكبات ونكسات ، أصابت منكم وأصبتم منها ، لم يكن
الأمر أبداً سجالاً ، فما كان الذي أصبتموه ، ليبلغَ عُشر مِعشار الذي أصابكم ،
هكذا كان الأمر على الدوام من قديم ومن حديث ، سيمضي وقت طويل جداً قبل أن تُتاح
لأحدكم فرصة لحصر الخسائر ، وتقييم الأضرار ، ومع أول لحظة إسترخاء ، ومع بدء
الدوران عكس منطق كل الأشياء ، ستعمل ذاكرتكم بكل جد ، وتنشط خلاياكم التي كانت
على وشك مفارقة الوعي ، فتعيد لكم رسم مشاهد الإنكسارات والعثرات ، وتتحسس معكم
قطرات الدمع التي سقطت صرعى في معارككم غير المتكافئة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق