2016/03/13

آخر غفوات الشتاء !


بقلم : ياسر حجاج
في البدء كانت الغفوة ، التي هي دون المنام وفوق اليقظة ، الغفوةُ توقيتٌ كوني معتمد للجمال ، حيث تعودت أن أستعير خلاله - ودونما إستئذان - هدهد سليمان ، ليأتيني بخبر ، ولو بنصف يقين .
لا علم لي ! ولكنني أظنها كذلك ، فهي بالنسبة لي اللحظاتُ الأقربُ للحقيقة ، الأكثرُ ألقاً ربما ، لعلها أيضاً هي الأكثرُ صفواً  ، غير أنها مع ذلك ، لا ينهض عليها حكمٌ ، ولا يُؤخذ بها كدليل ، شأنها في ذلك شأن كل الروائع ، التي تحف بنا وتخالطنا ، ولكننا أبداً لا نستطيع أن نشير إليها بحسبانها شواهد ، أو إمارات ، فمن بين جميع الأوقات ، تبقى الغفوات بثوانيها القليلة ، ولحظها الخاطف ، أوفى الرفاق وأحب الأطياف ، غلالة شديدة البياض ، كأنما إقتطعت من سحاب ، تأخذنا بعيداً ، بعيداً جدا ، هناك .. إلى ما وراء كل شئ وأي شئ ، لنعاين بأنفسنا كيف تجري الأمور من خلف الكواليس ، لنعود - بعد هنيهة - وقد إمتلأت نفوسنا بصور وأصوات ، همهمات وهمسات ، وبينما نتفقد صيد خواطرنا ، نجد السلال قد غدت خاوية ، إلا ما عساه يكون قد بقيَ من أثر الهالة الناعسة .

شتاءٌ ككل الأشتية ، لملم كل ما تبقى في أخيلتنا الكسولة ، بعد أن توارينا - خلال شهور مضت - خلف أغطية كثيفة ، وارتشفنا ما يكفي من مشروبات ساخنة . شتاءٌ يصطحب خلفه ألواناً من الشجن والركون والطقوس البائسة ، ليس أقلها المغادرة مبكراً إلى الفراش ، والعمل على إستنبات ذكريات دافئة بأي سبيل . شتاءٌ الوحشة والرحيل ، فيه نملُ الكتابة أو تملُنا ، لا فارقٌ كبيرٌ هنا  ، فالمحصلة بالنسبة لنا بقيت واحدة على الدوام ، وهي أن الغواية بقيت في حدها الأدني ، واقتصر الأمرُ على تحرشٍ بارد ، لم يجاوز فكرة الملامسة العابرة للوحة مفاتيح وشاشة حاسوب ، لكننا نوقن أن القصاصات المتناثرة في زوايا الذاكرة ، ستجد يوماً سبيلاً للإلتئام ، لا تضطر معه إلى الإنتظار هكذا ، حائرة ومترددة .

 الغفوات هي وسائل جديدة للتعبير ، أو فضاءات أرحب للسخرية والضحكات ، حيث مراتع كل الصور البديعة ، واللقطات الموحية ، والتقاطعات الغامضة ، والتي لن يُفلح أي شامبليون جديد في فك رموزها ، فنظل - والحال كذلك - في مأمن من صفاقة الفضوليين.
 ولإعتبارات لها علاقة بالملائمة ، نعلمُ أننا لسنا بقادرين على سكب ألوان فوق جُدر ، أو حتى إلى معاودة الحفر على الأشجار العتيقة بالجوار ، كما لم يعد معقولاً أن نبدد العشرية السادسة من أعمارنا في (شخبطات) غامضة إمعاناً في التعمية والمداراة ! ، الغفوات مخرج معقول جداً لكل هذه الإشكالات .

*****
هيا بنا .. نغفو !!
 من تحت فراشٍ مترع بالضجر والتأفف ، أملتُ في نوم هادئ ، لا تقطعه الضلالات ، ولكن كيف السبيل ، والضجر بذرة ثورة ، والتأفف مشروع هياج ؟ لا بأس ، فليكن الأمر كما يكون ، لا أعلم مقدار الوقت الذي مضي ، حتى لاحت أخيراً البشائر ، فهاهما الجفنان يشرعان في إسدال أستار من السكون والطمأنينة ، على العينين المسكونتين بالقلق والحيرة ، شعرت بتخدر أطرافي ، وإتسعت قليلاً فرجة من فمي ، لرسم إبتسامة الإستسلام لسلطان الغفوة ، ذلك الحاكم للأحجبة الرقيقة ، فأُخذت من فوري ، وحُملت على فرشٍ ناعمة ، وبُسطٍ ساحرة ، حتى خلت نفسي أكثر خفة ، وشعرتُ بصفاءِ غير معهود ، وإذا بي - وبفعل النشوة الجامحة -  أناطح مُلك سليمان إبان غابر الأمجاد ! .

 نعم .. ففي الغفوات تُهتك الأستار برفق ، فأرى بأعين حالمة وأسمع بأذن واعية ، ما لن أراه أو أسمعه وقت يقظتي أو منامي ، رأيت بكل وضوح ملائكة سارحة في الطرقات ، ومخلوقات شفافة هائمة في الفلوات ، وعراكاً ودندنات مهيبة في الفضاء الفاصل ما بين السماء والأرض ، أرواح صاعدة وأخرى هابطة ، وعلى مد البصر كان هناك أناساً يعكفون على حجارة بيضاء يقطعونها من جبل عظيم ، ثم يعودون فيقومون بتشذيبها وتسوية نتؤءاتها وحوافها ، حتى تبدو وكأنها ألواح كتاتيب تعلوها القدسية والبراءة .

 وجدتني أُمسك بحجر منبسط ، متوسط الحجم ، ثم تناولت قادوماً صغيرا ، وأزميلاً دقيقاً ، إنتحيت جانباً ، وجلست أرقب لحظات الغسق خجلى وبطيئة ، وهي تشرع في بسط حمرة قانية على الوجود ، وعلى صفحة الحجر الأمامية الملساء ، شرعتُ في النقش ، فما أجودها من هواية ! فالنقوش على أية حال ، لا تحمل أدلة إدانة كافية ، وإنما هي على أكثر تقدير ، ليست سوى قرائن جدية على أنني قد جاوزت الخمسين بالفعل ، وأحاول جاهداً - وبلا مبرر ظاهر - قلب معادلة مستقرة في معطياتها ، حاسمة في نتائجها ! .

 نقشت في البدء ، جياداً بسروج مطهمة ، تسير بعُجب لافت ، تتقدمها قطعان الكبوش والنعاج مفسحة لها الطريق ، ومن أمامها الكواسر والذئاب لضبط الحركة والإيقاع ، وعلى جانب المسير الأيمن ، كانت القطط والفئران تسير جنباً إلى جنب في مودة وتراحم ، بعد أن طووا جمعُيهم صراعاتهم التاريخية الخالدة ، فلم يند عنها صوت مواء أو نهيز ، . وعلى الجانب الأيسر ، كانت الحملان والأرانب تجد في مسيرها بكل وداعة ، لا يكاد يشعر بوجودها أحد .

 وغير بعيد في الأفق ، كانت الطيورُ تحلق في أسراب منتظمة وصامتة ، تظللُ في عليائها الموكب الذي يحرث الأرض حرثاً ، في طريقه إلى ساحة الحكمة ، هنالك عند تلك البقعة البعيدة ، فيما وراء الأفق ، وبدا أن الموكب في مسيره ، قد جلله الخشوع والإيمان ، وعلى مد البصر ، إذا بالشمس تشرعُ الآن في لملمة ما تبقى من خيوطها المذهبة من على صفحة الزمن الفاني ، وها هي الظلال بدأت في الإنحسار تدريجياً ، غير أن لا أحد حتى الآن رغم طول المسير ، قد خرج عن طور الجدية المفترضة ، فالأعين كانت معلقة بشفا ربوة عالية ، حيث يقف هناك ، أمين بيت الحكمة ، ليخطب الزمرة الآتية من بعيد ! حيث أشار للجمع القادم بالوقوف حيث هم ، ثم أمر الطيور فأخذت مواطئها ، ثم ساد صمت رهيب ، وهم يرونه يبدأ في بسط لفافة عتيقة ، حيث إبتدرهم مرحباً ، ثم شرع يقول :-

 { أعزائي .. تعرفون ما نحن مُقدمون عليه لقد كان لكم في أيام دهركم نكبات ونكسات ، أصابت منكم وأصبتم منها ، لم يكن الأمر أبداً سجالاً ، فما كان الذي أصبتموه ، ليبلغَ عُشر مِعشار الذي أصابكم ، هكذا كان الأمر على الدوام من قديم ومن حديث ، سيمضي وقت طويل جداً قبل أن تُتاح لأحدكم فرصة لحصر الخسائر ، وتقييم الأضرار ، ومع أول لحظة إسترخاء ، ومع بدء الدوران عكس منطق كل الأشياء ، ستعمل ذاكرتكم بكل جد ، وتنشط خلاياكم التي كانت على وشك مفارقة الوعي ، فتعيد لكم رسم مشاهد الإنكسارات والعثرات ، وتتحسس معكم قطرات الدمع التي سقطت صرعى في معارككم غير المتكافئة . 

أعزائي .. بعد قليل ، ستصك الطبول أسماعكم ، وتنبهكم إلى أن المعركة قد إنتهت أو أوشكت على الإنتهاء ، وأن الجلبة التي هي على مد البصر ، هي للمنتصرين يتبادلون الأنخاب فيما بينهم ، وأن النشيج في الجوار ، هو لأولئك الذين جللهم العار ، أعلم أن فيكم من إستسلم للسكتات والسكنات ، بحسبانها مجرد وسائل سلمية للإحتجاج ، حيث وقفتم متحيرين أمام غريب المشاهد ، وشذوذ الأراء ، لفحكم الصمت دهوراً ، فاجلتم الخاطر ، وقلبتم الأمور على كل الوجوه ، في محاولة لإعادة تموضع الأشياء ، ورسم الحدود من جديد ، ولعلكم سآلتم أنفسكم : لما يبدو الجميع من حولكم قديسين بمسوح رهبان ، أو ملائكة نبتت لهم - على حين غرة - أجنحة ، وهل كان مسيلمة وحده هو الكذاب !! .

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة