2015/06/10

ماما .. زمانها نايمة !

بقلم : ياسر حجاج
هي هكذا إذن ! فما بين دفقة روح وإنسلالها فثم الحياة ، حيث الكثير من الأماكن والصور والأشياء ، في رحلة التيه تلك ، يلزمك تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ليس الأمر بهذه البساطة التي تظن  ، فقبل ذلك عليك إجتياز إختبارات عديدة في كمياء الألوان ، لكن حذاري .. أن تتوه منك التفاصيل في الزحام ، إياك أن تتخلى عن الوشوشات ، لا تدع الصراخ يبلغ حد الصدمة ، وإلا فإنه ، وبمرور الوقت ستنطبع الألوان السائدة ، وتختفي أو تكاد خطوط الأناقة ، مرة واحدة تخاصم فيها الذوق ، فتصير جزء من فاترينة العرض ، وتغرق في إقتصاديات السوق .

مناديل موشاة بالدانتيل ، جوارب طويلة ، أحذية ذوات أربطة ، ساعة يد كلاسيكية ، ربطات عنق غامضة ، بالمناسبة قل لي .. ألم تسمع أو تقرأ شيئاً عن فن المنمنمات ، زخرفتك الإنسانية ، ذلك الألق المتواري عن أعين الفضوليين ، فلننظر ماذا ترى ! في ظني ستكون المصارحة هنا أمراً حاسماً .

بت في فصول الصيف ، لعلك تفتقد الآن أكثر المشاعر إنسانية ، سقوط المطر المصحوب بإهمال متعمد لمظلتك الواقية ، لعلك كنت أكثر حكمة عندما تأنيت في مشيتك ، لم يكن هناك ما يستدعي العجلة ، حيث بدأت كل المعزوفات في التألق ، لا أدري حقاً لما كنت تتابع مسبقاً سقوط المطر من الشرفات ؟ كان عليك أن تكون جزءاً من الحدث ، الآن وقد إكتسى زجاج النافذة بالكثير من البخار ، فماذا تريد أن ترسم ؟ قلب يتوسطه سهم ، لا .. موضة عتيقة ، شفاة يابسة تاقت للترطيب .. لست متأكداً ! أم تراك تريد تدوين الأحرف الأولى لتلك التي لم تعرف بعد ؟ لكن تمهل .. هناك من تقف في الخلف ترقب المشهد عن كثب ، لا تتورط .. فلن تنفعك ترنيمة ، إذا مت ظمآناً ، فلا نزل القطر ، فما أكثر الظمأى أزمنة الفيض .

هل ما زلت تذكرها ؟ نعم ..  خمس عشرة سنة ، هي كل العمر الذي كان يفصل بينهما ، ليس بالشئ الكثير ، أليس كذلك ؟ طفلة تزوجت فأنجنب وليداً ، كبرت الطفلة فباتت صبية ، نهض الوليد فأضحى طفلاً ، ترعرت الصبية ، فإستحالت شابة ، كبر الطفل فصار صبياً ، الشابة على أعتاب النضج ترفل ، فغدت سيدة ، الصبي شب أخيراً عن الطوق فلامس حد الشباب ، ولربما قبل الآوان ، في أعمارهما المتقاربة نوعاً ما ، إنقشعت حجب الكلفة ، وحلت الصداقة محل الأرتام الرتيبة ، غدت النقاشات في محلة أسمى من مجرد الصور القديمة المتمثلة في إصدار الأوامر من جانب ، وإطاعتها من جانب آخر ، فكل الأمور موضع أخذ ورد ، لا أحكام مسبقة ، ولا حتى تطبيقات صارمة ، فالصداقة المبكرة والتسامح المفترض ، كانا يفرضان آليات مختلفة في التعاطي والتناول ، كان الأمر أكثر من رائع .

كبرت السيدة قبل أوانها ، وكذا الشاب البكري وأول الفرحة ، بدا الأمر لاحقاً ، وكأن إستدراكاً متأخراً بدأت تلوح بشائره في الأفق ، حيث إعادة موضعة الأشياء ، وإستدعاء كل الأشكال النمطية في العلاقات ، فأنا الأم ، وأنت الإبن .. هكذا صاحت ، ولكن عذراً ليس هذه المرة ، فلن أعود القهقري .. هكذا أسفر عن وجهه الشاب ، إتفقا وإختلفا ، بل تخاصما وتصالحا ، شأن كل الأصدقاء ، وككل سمار الليالي ، كانت تجمعهما حفلات الشاي التي لا تنتهي ، فيكون العتاب ، ومن بعده يأتي التبسم ، فتحضر القفشات ، فالضحات ، فتحية المساء ، ثم .. الختام ، باللهم إجعله خير .

روت له كيف أنها وصديقتها عندما كانتا شابتين ، تم طردهما من مناسبة عزاء في وفاة أم لصديقة أخرى لهما ، ذلك أنهما لم يتمالكا نفسيهما من الضحك رغم محاولتهما المضنية للكف عن ذلك دون جدوى رغم نظرات إستهجان الحاضرات ، يا إلهي .. حتى في مناسبات العزاء كان الضحك حاضراً ، ولما لا ، ( نحن أبناء لن يكون حظهم من ميراث الأسرة سوى الضحكات ) .. هكذا قال له أحد أشقائه .

أكثر المناسبات التي كان يفر منها ، فرار الحُمر المستنفرة إذا ما رأت قسورة ، هي مناسبات العزاء ، فالصورة المروية مطبوعة في المخيلة ، فإن هي إلا لحظات معدودات في سرادقات العزاء ، حتى يستحيل الأمر برمته إلى مسخرة حقيقية ، في مواضع كان يفترض أن يكون فيها من الهيبة والوقار الشئ الكثير ، ولكن هيهات ، في إحدى هذه المناسبات إصطحبه صديق لمواساة زميل لهما في وفاة عمه ، وإذا بالصديق الجالس بجواره يهمس له بصوت خفيض ( الله يرحمه .. كان إبن كلب ) ، في لحظة خاطفة تناول منديله ووضعه على فمه في محاولة لوقف بركان المرح الذي بات على وشك الإنفجار في وجه الجميع ، ومع محاولته إنقاذ ماء وجهه وسط الحضور ، تلآلآ الدمع في عينيه من فرط محاولته إماتة الضحك ، وكبح جماح السرور ، الأمر الذي حدا باحد الحضور أن يقوم من مكانه ، ويهدأ من روعه ، ويطالبه بالصبر الجميل ، لقد حسبه المسكين يبكي على المرحوم ... إبن الكلب .

عادت فأهدته شريط كاسيت ، كان دائم الدوران في أرجاء المكان ، فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا ، فقلت معاذ الله ، بل أنت ، لا الدهر ، وعلى وقع الذكريات الطربية أيام الوحشة والمرض والتأوه ، أسفرت عن أغنية أثيرة لديها لم تعد تسمعها منذ زمن بعيد ، كانت بالكاد تتذكر بعض من مقاطعها ، لكم كانت سعادتها كبيرة عندما أفلح في العثور عليها ، وقام بإسماعها إياها ، على بعد ألفي ميل ، لقد دخلت الآن الجنينة ، فما عساها ترى الآن ؟ رحمك الله يا أمي .


ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة