2018/09/18

ثمارُ العلم !



بقلم : ياسر حجاج
ما أطيب العِلم .. فهو عالمٌ مُترعٌ بالواقعية الشديدة، والموضوعية الأشد، القائم على الرصد والملاحظة والإستنتاج، ثم التجريب، فصواب أو خطأ، فلا مجال للإحباط هنا، بل معاودة نظر وتدقيق وأناة، مقدمة ونتيجة، سبب ومُسبب،علة ومعلول، ماذا نريد أكثر!

في نقاش مع أحد أبنائي، إسترعى إنتباهي حماسته الشديدة للمقولة الدائرة في الأوساط العلمية، من حيث أن العلم - على خلاف الدين مثلًا - ليس في حاجة إلي أتباع لينتشر وتطبق شهرته الأفاق ، فالدين أي دين، ما كان ليستمر إلا من خلال أتباع ومريدين ودراويش أحيانًا، أما العلم فهو على خلاف ذلك بالمرة، هو حقيقة قائمة بذاتها، أحببنا ذلك أم لم نحب، فمنطقه قاهر، وقواعده حاسمة، وهو بهذه المثابة ليس في حاجة إلى مساندتنا أو تعاطفنا لينتشر أو تكون له الغلبة، كما أنه لن يتأثر لا بكرهنا أو ضغائننا، فالعلم ليس في حاجة إلى جماهير.

العلم من ناحية أخرى لا يعرف التمذهب أو الطائفية أو الإنحيازات الفكرية أو الإهتمامات الشخصية، خذ مثلًا التجربة البسيطة التي كانوا يعلموننا إياها في حصة العلوم بالمرحلة الإبتدائية،والمؤسسة على قاعدة (أن الهواء يساعد على الإشتعال) حيث نذكر أن مدرس العلوم كان يقوم بإيقاد شمعة، فتظل على حال إتقادها، إلا أن يقوم لاحقًا بوضع قدحًا فارغًا من فوقها فتنطفىء، فتتعزز القاعدة في يقيننا، بعد أن رأينا تطبيقًا حيًا وأمينًا على صدقها، فهذه التجربة - على بساطتها - إن أجريناها في منازل الملاحدة أو دور عبادة المؤمنين، في الشرق أو الغرب، حال سرورنا أو تعاستنا، فإنها ستعمل بكل تأكيد، وتعطينا ذات النتائج، بلا زيادة أو نقصان.

 إن طاولات البحث والمختبرات تضم كل الأطياف والملل والنِحل من الباحثين، لا يجمع بينهم سوى تلك الأكواد الأخلاقية العلمية العامة، كأمانة البحث، ودقة العرض، والتشارك المعرفي الأمين، والإستخلاصات المجردة من الهوى، ثم من بعد ذلك التحوط في عرض النتائج، ولأن العلماء أناسٌ يتسمون بالتواضع، فهم يقدمون إلينا نتائج جهدهم، ثم لا يلبثوا أن يقولوا لنا : ليس هذا كل شيء. ذلك أن العلم تيار جارٍ لم يعرف يومًا القداسة، ولا الحقائق المطلقة، ولا الأفكار الغيبية.

كان من الطبيعي جدًا أن لا يكون من بين الرسل والأنبياء علماء خبروا التجارب أو النظر في العلوم، فبيئة الدين ليست كبيئة العلم، فالدين بحسبانه رسالة روحية، فإن صداه يظل يتردد ما بين الشعور والوجدان فحسب، وهو من بعد ذلك لا يجد له من مستودع ولا مقام، إلا في قلوب المؤمنين به، وهذا حيز من المستحيل أن يتعامل معه العلم، أو أن يبسط عليه نفوذه بحال من الأحوال. وعليه فإن محاولة البعض الربط الدائم ما بين الدين والعلم، أو تديين العلم بصورة ما، هي محاولة بائسة لا تتسم بأي قدر من الحكمة، لأنها محصلتها النهائية، قد تقود إلى إزدراء الدين الموسوم على الدوام بالقداسة والثبات ، أو التقليل من شأن العلم ذاته الذي هو في حالة فوران دائم، لا نكاد نقف له على نهاية.

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة