2018/09/03

هذه الدنيا !

الشاعر النمساوي
راينر ماريا ريلكه
1875-1926

الأعمال الفنية تنبعُ دائما من أناسٍ واجهوا
الخطر، ووصلوا إلى النهاية القصوى للتجربة

بقلم : ياسر حجاج
لعلي لا أجدَ إستهلالًا أفضل من هذه المقولة الساحرة لما أودُ عرضه هنا، فعطاء الإنسان على هذه الأرض غير محدود، وإنفعاله بمحيطه يبلغُ أحيانًا حد الذروة، بل ولربما جاوز حتى - في لحظات إستثنائية جدًا - خطوط النهايات، لكل ما هو معلوم من عوالم الجمال والدهشة والتأمل. 

قبل الإسترسال، أودُ الإشارة إلى أن الخطرَ الذي قصده الشاعر النمساوي، لا يعني بالطبع ذاك الشعور الكلاسيكي الذي يدهمُ أحدنا فيُسلِمَه إلى أودية تُنبتُ خوفًا وهلعًا ورهبة، بل أن الخطر الذي يعنيه، ليس سوى الحالة النفسية العميقة التي تتلبس روح الفنان أو المبدع، وهو عاكف على النظر والتأمل في كل ما يشغله، سواءٌ في حيزه الضيق أو في محيطه الإنساني العام، فإن جاوز نظره وتأمله الحد الذي يمكن لوجدانه أن يحتمله، لم يعد يجد من بدٍ سوى أن يطرحه إلى فضاءٍ أكثر رحابة، عبر عملية إبداعية تجد طريقها من المكنون الخاص للفنان أو المبدع، إلى حيث مكنونات الناس ونفوسهم، ليشاركوه - ولو من بعيد - قدرًا من مخاض التجربة ، ذلك أن الأعمال الإبداعية في النهاية ليست سوى رغيف مُقتسم بين صاحب تجربة متأمل، ومتلقٍ يحدوه الأمل في إشباع من نوعٍ ما.

لوحة الخروج من القطيع

الأعمال الإبداعية على مختلف صنوفها هي رصيد مُضاف ولا شك إلى الضمير والوعي الإنساني ، ويقع في القلب منها ما جادت به قرائح المبدعين، من رسومات وجداريات وتماثيل، تلك الأعمال التي ما كانت يومًا مجرد صروح صامتة في صفحة الزمن، بل أنها كانت على الدوام تنبض بالحياة على نحو جاوز حتى حدود الصخب والخيال.

واحدة من أكثر اللوحات مدعاة للدهشة والتأمل هي لوحة (الخروج من القطيع) للفنان البولندي/ توماس كوبيرا. فهذه اللوحة تختزلُ بصورةٍ مذهلة كل الحكايا، القديم منها والجديد. ولعلها ستروق كثيرًا لكل من رام أن يظلَ عقله مستقلًا بعيدًا عن أجواء المصادرة والإستلاب والمجاذبات، ولكل من أراد الإستئناس بالزاوية التي مازالت تُضيء في وجدانه، ولكل من إستعظم أن يكون خياله مجرد مسرح بائس يتراقص عليه المهرجون، ولكل من عرف لنفسه قدرها، فأبى أن تضيع منه في زحام الجماهير. 
توماس كوبيرا

الخروج من القطيع ليس مجرد لوحة زيتية باهرة مُنتصبة في بهو فسيح، بل هي رسالة رمزية إلى أبعد الحدود، وتنطوي على ما لا حصر له من التأملات الجديرة بالتتبع والعكوف، وعليه فإنه يلزم كل أحد منا أن يعمل من أجلها بطريقته، هذا إن أراد أن يرى الدنيا بعينيه هو، لا بعيون الآخريين، ويصيخُ لها السمع بأذانه هو، لا بأذان الآخريين، وأن يسير إليها ومعها بخطاه هو، وليس متتبعًا لأثار خطي الأقدمين.

من اللافت هنا أيضًا أن توماس كوبيرا كان واضحًا إلى أبلغ الحدود، وهو يقول لك من خلال لوحته المُلهمة، أن خروجك من القطيع لن يكون سهلًا بحال، وأنك بلا شك ستدفع ثمن هذه المغامرة المنطوية على خطر عظيم، كما سبق وأن دفع ثمنها قبلك كثيرون، ممن رأوا أن السباحة ضد التيار، أفضل ألف مرة من الإنجراف في تيارٍ آسن عميم . أخيرًا فإن لوحة الخروج من القطيع تُعلي من قيمة وشأن أن يكون لأحدنا شخصيته المتميزة، التي تنزعُ عن عقلية نقدية مستقلة، ومتمتعة بقدر كبير جدًا من الموضوعية والحياد، فهي لوحة الإنسان كما ينبغي أن يكون.

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة