2009/10/17

بسلامته مترجم

إذا أردت أن تحصل على تأييد ومساندة الفرنسيين فليس كافياً أن تكون مجيداً للغة الفرنسية ، بل يلزم أيضاً أن تنطق الإنجليزية بلكنة فرنسية ، بهذه الجملة المعبرة والمرحة خاطب د./ بطرس بطرس غالي أحد الدبلوماسيين الأفارقة والذي بدا وكأنه أحد منافسي الدبلوماسي المصري العتيد على منصب الأمين العام للأمم المتحدة ، أورد ذلك د./ غالي نفسه في كتابه القيم "خمس سنوات في بيت من زجاج" وهو يتناول فترة توليه المنصب الدولي الأرفع في العالم وما أحاط بها من أحداث ، وما بين سطور هذه العبارة يتبين أن حصول المرء منا على تأييد أو مساندة أو تعاطف ما لا يتأتى في الحقيقة لمجرد إلمامه بلغة من ينشد تأييده ومساندته وتعاطفه ، وإنما الأمر بتعلق في حقيقته بحالة نفسية عميقة تتمثل في أن تعيش هذه اللغة حقاً بكافة أمزجتها حتى وأنت تتحدث بلغة أخرى ، فهكذا هم - على خلافنا - يحبون لغتهم ويدللونها .

ذكرني الأمر على حال بالأيام الخوالي ، فعلى الرغم أنني من الناطقين باللغة العربية والمعتزين بها أيما إعتزاز ، فإني أحمل وداً عميقاً للإنجليزية ، ووداً مشبوباً بالدفء للفرنسية ، ويعود الأمر في حقيقته إلى سنوات الإطلاع الأولى حيث كانت الكتب والروايات الأدبية العالمية أقرأها مترجمة إلى العربية من باب العجز عن قراءتها بلغتها الأم ، ويبدو أن حبي للإنجليزية أثناء الدراسة ونيلي علامات جيدة بها قد دفعني بإهتمام إلى التفكير في قراءة الكتب بلغتها الأصلية وهو تفكير محمود إذا كان المرء يملك من الإمكانات ما يؤهله للقيام بذلك ، فالفضول الإيجابي والنوايا الطيبة لا يكفيان بذاتهما لجعل أحدناً مترجماً ذواقاً أو قارئاً محنكاً ، وفي لحظة طيش جامح من لحظات ذاك السن إنتويت إمتطاء جواد الحمق على عجل في رحلة بائسة لا لقراءة كتاب بالإنجليزية فحسب وإنما لترجمته كذلك إلى اللغة العربية ، ولما كان هوسي بالتاريخ بلا حدود فقد قمت بشراء كتاب باللغة الإنجليزية كان يتناول عصور الإمبراطوريات الصينية لا سيما عصر أسرة منشو.
وكما لم أحب فإن هذه الترجمة باءت بالفشل المدوي بعد الإنتهاء من ترجمة الصفحة الثانية من كتاب يتجاوز الثلاثمائة من القطع المتوسط ، نحيت الأمر جانباً بشكل مؤقت حتى ينمو لدي الغراس اللازم لهكذا مغامرات ، فما لم يكن للمرء حس لغوي آخاذ للغته الأصلية ومثيله للغة التي يترجم منها فإن جهوده ستراوح مكانها، ولكن مع ذلك ظل الإهتمام بالإنجليزية يداعبني ، ورويداً رويداً وبتدافع عجلات الزمن إلى الإمام نبت الحد الأدنى للغراس اللازم ولكن قمت بتوجيهه هذه المرة إلى أولادي للعمل على الإلمام الكامل والدقيق للإنجليزية وأن ييمموا شطر وجوههم لما يجاوز مناهجم الدراسية الكئيبة التي تصيبهم بالبلاهة ، ويبدو أنني قطعت في شأن ذلك شوطاً لا بأس به ، أما عن اللغة الفرنسية فقد كانت في مرحلة ما لغة أهل الصفوة والثقافة والصالونات الأدبية في عصور ما يسمى بالتنوير فما زالت تحتفظ بدفئها داخلي وأتمنى أن أقطع بشأنها ما قطعته في الإنجليزية ، إذ إقتصر الأمر فرنسياً على المعلومات التي ظلت محفوظة قي تلك الذاكرة المنهكة من أيام الدراسة الثانوية والجامعية .
وياليت القائمين على أمور التعليم في بلادنا يولون قدر من إهتمامهم للغات الأجنبية فقد أضحى مستوى طلابنا والجامعيين من جملتهم في وضع مزرٍ ومخجل ، ويكفيك أن تطالع أحدهم وهو يتحدث بلغة أجنبية كالإنجليزية مثلاً لتقف بنفسك علة مقدار الإهانة التي تلحق بهذه اللغة جراء التهتهات والتلعثمات اللا منتهية ، هذا بالطبع إذا قمنا بإستثناء دول المغرب العربي المجيدون بشدة للغة الفرنسية والتي طبعت ملامح الحياة هناك وإن كان ذلك على حساب لغتم الأم التي يبدو أن ستأخذ طريقها لتكون هي اللغة الثانية للأسف .
إن الإهتمام باللغات الأجنبية أمر ضروري للغاية لنتمكن من العيش بإيجابية في هذا العالم الذي تم تقسيمه آلياً إلى قسيمن كبيرين ، قسم التجارة الدولية والأعمال والحاسوب وتمثله الإنجليزية بإمتياز ، وقسم للدبلوماسية والثقافة وتمثله الفرنسية بإمتياز أيضاً ، إن نظرة عابرة على الإحصائيات المتعلقة بحركة الترجمة العالمية ستظهر لك بلا مواربة أن مجموع ما ترجمته الدول العربية مجتمعة من كتب أجنبية في عقود طويلة لا يقارب مثلاً ما ترجمته اسبانياً في عام واحد وذلك إنما يعود في المقام الأول إلى عدم تشجيع مترجمينا وتقديرهم أدبياً ومادياً بالشكل اللازم واللائق بهم الأمر الذي يؤدي إلى إنصرافهم عن الإهتمام بهكذا أمور ذلك أن الترجمة إنما يجب أن ُتجند لها مؤسسات متخصصة ذات إمكانات مالية كافية والأهم أن يكون لدى القائمين عليها إيماناً بأهمية الترجمة بوصفها مقربة لسبل وأسباب التواصل الإنساني بين جميع الأمم ويبدو أن هذا الإيمان لن يجد طريقه قريباً إلى عقول وقلوب القائمين على شئون الثقافة في بلادنا .
أما عن اللغة العربية التي هي أكثر ثراءاً وقدرة أكبر على التعبيرفحدث ولا حرج فقد ُأدخلت بفعل فاعل إلى القاعات العتيقة لمجامعها ولم تخرج بعد ، وحلت محلها أو كادت تلك المصطلحات والأيقونات العصرية التي تسيل على الألسنة بلا خجل ، وباتت مجامع اللغة العربية في أفضل الأحوال تصب جل إهتمامها على مجرد تعريب الكلمات الأجنبية التي أخذت طريقها إلى الألسنة مع منحها تعريباً مسخاً ومضحكاً كالتي التي تروي عن تعريب كلمة sandwich والتي ُعربت فأصبحت " شاطر ومشطور وبينهما كامخ " .

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

في حدود إطلاعي أتصور أن الدول التي كان قدرها الرزوح تحت الأحتلال الفرنسي كانت أكثر حظاً - وحتى من هذا اليوم - من تلك التي جعلت تحت الأحتلال الأنكليزي الذي كان حقيراً بكل ما للكلمة من معنى!.. فقد أجهد نفسه في زيادة تخلفها إلى ما هي عليه من تخلف.. على العكس تماما من الفرنسيين، وإن خبثت النوايا
لست هنا لبخس المكتسب الفكري لتلك الشعوب.. لا .. أبداً.. بل أشهد لها بالتوفيق في توظيف تلك الثقافة لصالحها
المهم أن محاولة الترجمة هي دليل على التوق الشديد للألمام باللغة المترجم منها
وهنا يستوقفني المغتربون العرب لمَ لم يحاولوا الأستفادة من إلمامهم بلغة تلك البلدان والعمل على الترجمة من وإلى اللغة العربية؟!
ومعذرة عن الإبتعاد عما رمتموه من مقالكم القيم..

البنات حسنات يقول...

إلى سراج
هذا كلام دقيق إلى حد كبير ، ذلك أن الفرنسيين مصنفون أوربياً على أنهم أكثر شعوب هذه البلدان ثقافة لقدرتهم على إسنمالة كثير من العقول والقلوب بكتاباتهم وإبداعاتهم وأرائهم عموماً ، أما عن ما ذكرتيه من وجوب قيام المغتربون أو المتغربون بجهد ما في شأن الترجمة ، فالحق أن بعض منهم يولي هذا الأمر إهتمامه وإن كان الجهد سيبقى فردياً لا ُيرى له أثر كالذي نشاهده إزاء الجهود التي تنتج عن مؤسسات كبرى وهيئات متخصصة .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة