2015/02/05

لوغاريتمات .. نوبل للآداب !


Collage: Kenzaburo Oe, Eyvind Johnson, Selma Lagerlöf, Elfriede Jelinek and Winston Churchill


بقلم : ياسر حجاج

(الشمال الغني ، والجنوب الفقير!! عبارة تبدو وكأنها قدراً عٌلوياً محتوماً ، أو حكمة صاغها الأقدمون فجرت مثلاً على ألسنة المحدثين ومن يلونهم ، ثم من يلونهم .
إن لم تكن سمعت عن هذه العبارة من قبل ولو عرضاً ، فأرجوا أن تلقي نظرة على أطلس العالم ، فغالباً ما ستجد الدول الغنية دائماً في الشمال ، تليها الدول أقل غني ، فالدول الفقيرة ، ثم الأكثر فقراً في الجنوب ، ألق نظرة أخرى على خريطة بلدك ، تجد المقطاعات الغنية (شمالاً) بينما الفقيرة (جنوباً) ، ومرة ثانية الآن إلى أطلس العالم ، هناك ستجد أيضاً الشرق المتخم بالعراقة والقدم (مُهمش ، منسي) ، بينما الغرب الممتلئ غروراً (مُحتفى به ، وتحت المنظار) .

هل هذه جغرافيا ؟ لا أدري .. لعلها تاريخ أيضاً ، وربما سياسة !


في ليالي الشتاء الباردة ، والعتمات التي تأتي مبكرة في هذا الوقت من كل عام ، زارني لطيفه اللطيف ، فأنا تربطني به - عن بعد - أواصر خاصة جداً ، فقد عرفت طريق القراءة وإقتناء الكتب عبر بوابته الفسيحة ، ففي العام 1978 تقريباً ، دلف إلى مكتبتي أول زائرين عزيزين له ، رواية (ميرامار) ، ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان (بيت سئ السمعة) ، بمرور الوقت عرفت أننا قد ولدنا في يوم واحد أيضاً ، الحادي عشر من ديسمبر ، مع فارق عمري جاوز النصف قرن بقليل ، ومع طيفه المتهادي بقامته المتوسطة ، ونظارته الشهيرة التي تختبئ وراءها كل حكايا القاهرة بشوارعها وحواريها وأزقتها ، سألت نفسي : لما تأخر منحه جائزة نوبل للآداب إلى العام 1988 ؟ وهنا غاب الطيف ، فهرعت إلى نوبل أستطلع الأمر .
بمجهود بسيط ، وحماسة لا ينقصها المرح ، أعددت جداول وحسابات وإحصاءات وتحليلات على قدر فهمي المتواضع ، فأيقنت أو بالأحرى كدت أن أوقن ، ان هذه الجائزة تحديداً وبحسبانها أرفع جائزة تُمنح للمبدعين من الأدباء والشعراء حول العالم ، ليست بعيدة كلياً عن واقع الجملة شبه القدرية (الشمال الغني ، والجنوب الفقير) ، بل أن هذه الجائزة هي - إلى حد معقول - محاولة لا بأس بها لفهم مدلول العبارة ، وإن يكن برؤية مختلفة بعض الشئ .

من حيث المبدأ يجب أن نقر بأن جائزة نوبل التي تُمنح في ميادين عديدة للنابهين تبدو لي موضوعية جداً ، ولا غبارعليها إن كان ميدان الجائزة يتعلق بالمناحي العلمية المباشرة (كالإقتصاد والفيزياء والكيمياء والطب) ، فالمجاملة هنا لن يكن لها محلاً بالتأكيد ، ذلك أن هذا الميدان على وجه الخصوص يخضع للتجريب والتطبيق والمراجعة والتدقيق وفق معايير مهنية قياسية جداً ، وحادة جداً أحياناً .
وتبعاً لذلك ، لا أظن أن لجنة التحكيم في هذا النوع من الجوائز ، ستغامر بسمعتها الدولية ، أو مهنية القائمين عليها ، من أجل منح الجائزة لمن لا يستحقها في أي من هذه المجالات ، فالعلماء شرقاً وغرباً سيرقبون الأمر عن كثب بالتأكيد ، ولن تتوانى مراكز الأبحاث من جهتها ، فضلاً عن المجلات والدوريات العلمية الرصينة من الإفصاح ، بل وربما التشنيع إذا وقفت على أية هفوة علمية ، أو ذلة منهجية ، فالعلماء كما تعلمون حساسون جداً في هذا الأمر ، وغض الطرف بالنسبة لهم هو أمر لا يعرفونه تقريباً. 

لقد كان طبيعياً بالتأكيد أن تتوزع جوائز نوبل في الميادين العلمية الصرفة على طائفة من الدول الهامة في هذا المضمار ، والتي تُـولي البحث العلمي قدراً هائلاً من الأهمية ، وتُنفق عليه بنسب جيدة جداَ من إجمالي ناتجها المحلي ، فضلاً عن توفير المناخ المناسب ، والأجواء الجاذبة والحاضنة للباحثين والعلماء من كل أصقاع الدنيا ، فلا إشكال هنا أن تختص هذه الدول تحديداً بحصد النسبة الأعظم من هذه الجوائز ، فهذا أمر بديهي ومعقول جداَ ، بل ومستحق أيضاً .

*****
أما فيما يخص جائزة نوبل (للآداب) ، فلا أجد البديهية ، أو المعقولية بذات الدرجة ، فقد بدا لي الأمر مختلف ، والأسئلة المحيرة مازالت تراوح مكانها ، فهذا النوع تحديداً من الجوائز يتعلق بأعمال إبداعية ملفتة ، ذات قدرة خلاقة على مداعبة الخيال ، وموادعة ومؤانسة النفس ، فضلاً عن كونها منتج (فائقة الجودة) لكل من أراد أن يقرأ واقعه ويستشرف مستقبله ، أو حتى إذا أُريد تذكيره بخوالي الأيام والأحقاب شعراً ونثراً ، وخليط بينهما أحياناً .

إن الأعمال الإبداعية في عمومها لا يستقل بها غني عن أخر فقير ، ولا يستأهلها بالضرورة ذوي العيون الزرقاء على حساب أصحاب البشرة السمراء ، فالوعاء الإنساني فياض ، والمشاعر والوجدانيات كثيراً ما تتشابه ، والتجارب الحياتية تعرُك الجميع ، وبالتالي فلا أجد أي منطق ان تستحوذ الدول الغنية (هنا أيضاً) على الاكثرية المطلقة لهذا النوع من الجوائز ، فلربما كان شاعر بإحدى القرى الفيتنامية أكثر ألقاً من نظيره في روتردام بهولندا ، ومن الجائز ان كاتباً مبدعاً في مجاهل أفريقيا ، أبلغ وأوعى من نظيره القابع في مقهي أنيق بمونبلييه الفرنسية  .

*****
 ولأن هذه الجائزة بالتأكيد تتجاوز حدود التكريم الشخصي والأدبي للفائز بها ، إلى حيث بلده ومحيطه وإقليمه وجيله بكامله ، فيبدو أن هناك من يريد أن تظل دولاً أو ثقافات او حضارات بعينها خارق سياق هذا التكريم بشكل ما ، ولإعتبارات - في ظني - لا علاقة لها بقيمة المنتج الأدبي ، ولا الفرادة الفكرية لصاحبه ، فالأمر لا يخلو من المناكفات السياسية ، ولا الصراعات الدولية أو حتى الإيديولوجية ، وفي ظني المتواضع أن التاريخ (القديم والحديث والمعاصر) يطل برأسه أحياناً ليدير الدفة من بعيد ، ويُملي التوجهات من طرف خفي ، وفج أحياناً .

إن نظرة سريعة على التوزيع القاري للدول التي فاز أبناؤها بهذه الجائزة لجديرة – بالنسبة لي على الأقل – أن تضع علامات تعجب ، وليست إستفهام ، فالإجابة باتت معلومة لي ، فقد بدأ العمل بتوزيع هذه الجائزة إعتباراً من عام 1901 وحتى الآن ، ولم تُحجب إلا سبع مرات فقط وفقاً لظروف ترتبط إلى حد بعيد بإندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية ، أي أن هذه الجوائز قد تم توزيعها في 107 مناسبة ، ولننظر الان إلى حصص القارات المختلفة من هذه (الغنيمة) الرفيعة لندرك قدراً من الدلالة .


دلالات أخرى

(1) أيكم الآن أعزائي يستطيع أن يتلو على مسامعي أسم أديب أو شاعر سويدي دون الرجوع إلى محركات البحث ؟ ها .. مازالت انتظر ... ! على كل حال فإن سبعة من السويدين لا أعرف واحداً منهم قد فاز بهذه الجائزة ، نعم سويدين حيث موطن صاحب الجائزة الأشهر إلفرد نوبل ، هل تشعر بالإستغراب ؟ .
هاكم رأي قرأته نقلاً عن الصحافة العالمية منذ زمن ، عندما فاز بالجائزة شاعر سويدي (لا أذكر إسمه) ، حيث تندر البعض وقتها وقال أن الجائزة قد مُنحت لهذا الشاعر ، ليست لجودة شعره ولا إبداعه الأدبي ، لكن الترجمة الرائعة والفريدة لهذا الشعر لم تجعل للجنة الحكم أي خيار سوى منح الجائزة - سنتها - إلا لهذا الشاعر ! 


(2) هل سمعتم عن جزر الأنتيل الهولندية ؟ هي بالمناسبة مجموعة جزر بجوار فنزويلاً برعاية التاج الملكي الهولندي ، تساوى أحد أبناء هذه الجزيرة (دريك والكوت) ، مع دولة بحجم الصين في عدد مرات الفوز بهذه الجائزة ( مرة واحدة ) ! ، فالصين بعدد سكانها المذهل وثقافتها الضاربة في القدم ، وحضارتها العريقة لم يجدوا فيها سوى شخص واحد (مو يان) يستأهل نيل هذه الجائزة الرفيعة ، وعندما وجدوه - أخيراً - كان ذلك بعد 112 عاماً من تاريخ البدء العمل بمنح هذه الجائزة .


(3) إن ثلاث قرات بأكملها ، بعدد من الدول يجاوز المائة ، لم تتمكن على مدار تاريخ منح هذه الجائزة من التساوي حتى مع عدد مرات الفوز بها لدولة واحدة كفرنسا .


(4) هل تشعر بالعجب أن من بين الفائزين بهذه الجائزة لا أديباً ولا شاعراً مثل ونستون تشرشل ذو الخلفية العسكرية ، ورئيس الوزراء البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية الذي نال هذه الجائزة عام 1953 ؟ فهل كانت الجائزة له كما أفصحت اللجنة من أجل براعته في الوصف التاريخي وإتقانه السيرة الذاتية ، ودفاعه الرائع عن القيمة الإنسانية الرفيعة ، أم كانت الجائزة هنا هدايا للمنتصرين في الحرب ؟

*****
هذه بعض من إنطباعاتي عن هذه الجائزة التي كثيراً ما كانت مثار جدل ، وفي ظني أن الماضي الإستعماري القديم لم يُبارح كلية عقول وأفئدة الكثير من النخب الفكرية في الغرب التي تعمل على أن تُرسخ أكثر وأكثر من تعظيم فكرة التفرد الذهني والمعرفي والحضاري للعقل الغربي (في مجال الآداب) ، على حساب ذوي العقول والأفهام بكافة الأصقاع ، دون ضابط حقيقي مقنع ، فإن لم تكـن هـذه مـؤامرة حقيقية ،  فعـلى الأقل أنها لم تكن حفلة لتبادل الأنخاب على موسيقى أوركسترا إستكهولم السيمفوني .

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة