2011/03/05

(5) هوى الإستبداد .. شرقي السمات

6- الإسكندر يؤله نفسه في الشرق .

الشرق بروحانيته وسحره وعطره وبخوره كانت له جاذبية ملفتة في أن يطبع عاداته وتقاليده وطقوسه في أفئدة كل من وطئت قدماه أرضه ، وكأن الموروث الشرقي القديم على تباين نحله وأهوائه قد أبي إلا أن يغرز إبره في مسام الرائح والغادي إلى ومن أرض الشرق ، ولم يكن الإسكندر المقدوني الأكبر إستثناءاً من هؤلاء وفي تفصيل ذلك يقول مؤلف كتاب الطاغية ( بأن المدن اليونانية قد وقعت قرابة القرن ونصف تحت سيطرة الطغاة فيما يسمى عادة بعصر طغاة الأغريق ، إبتداءاً من طاغية كورنثه وإنتهاءاً بطاغية أثينا ، وهي الحقبة التي ذاق المواطن فيها الكثير من الظلم والإضطهاد والمعاناة ، لكن على رغم ذلك لم يحدث أن طلب أحد الطغاة من الشعب أن يسجد له عندما يشرف واحد منهم بالمثول بين يديه .. صحيح أن المدن اليونانية تقلبت عليها الأنظمة وعرفت من بين ما عرفت النظام الملكي لكنه لم يكن بقسوة النظام الشرقي ، وتبعاً لذلك يظل من الصواب أن نقول أن المدينة اليونانية كانت جمهورية في مقابل النظام الملكي في الشرق ، ولهذا فإنه يقال عادة أنه بعد غزو الإسكندر للشرق إنهزمت المدينة اليونانية الجمهورية وإنتصر النظام الملكي ، فقد قامت دولة واسعة الأرجاء كثيرة السكان على أنقاض مقاطعات كثيرة وإنتقل مركز الثقل في العالم اليوناني نحو الشرق ، وأصبح تطور النظام اليوناني أمراً محتوماً ) .

لكن في أي إتجاه يسير هذا التطور ؟ يفصل المؤلف ذلك مبدئياً بالقول ( أن الرجل اليوناني ظل يخضع للقانون الذي يصنعه البشر ولم يخطر بباله أن يكون الحاكم إلهاً أو أنه يمثل الإله على الأرض ، ففكرة تأليه الملك أو الإمبراطور صناعة شرقية محلية فحسب ، ولهذا شهد الشرق أسوأ أنواع الطغيان بل كان النموذج الأعلى له ) أما عن كيفية التطور بعد أن إلتحم الشرق بالغرب بعد غزو الإسكندر ، فمن المفهوم بداءة أن النظام الملكي الشرقي لا يقبل بمبدأ الحرية السياسية الذي كان سائداً في المدن اليونانية لاسيما في أثينا .. فقد أصبح المواطن الآن تابعاً وحل القصر محل الجمعية الشعبية أو الجمعية الوطنية ، وكانت النتيجة أن أصبحت السلطة الملكية مطلقة وأصبح الملك هو الشريعة الحية لا يقيده شيء ولا يخضع لأي رقابة فإرادته إرادة مطلقة وظهرت عبارة تؤيد ذلك مثل ( إن ما يقره الملك هو عادل أبداً ) ، وقد نقل الإسكندر فكرة التاج من فارس حتى أصبحت مرادفة للمُلك وكذلك لفظ ( العرش ) وإستخدمه كل خلفائه من بعده ، وبعد غزو الإسكندر لفارس أطلق على نفسه ( سيد آسيا ) التي كانت تعني وقتها الإمبراطورية الفارسية ، وكان قبل ذلك قد أطلق على نفسه ( ليث فارس الهصور ) ثم تسمى بإسم الملك وهو لقب لم يستعمله إطلاقاً على العملة التي سكها في مقدونيا وقد أخذت هذه الألقاب في الظهور على بعض من العملات الأسيوية التي كان يصدرها .

بدأ الإسكندر يأخذ بعادات الشرق وثيابهم ويتزوج منهم إلى أن وصل إلى أعلى عادةعندهم ألا وهي تأليه الحاكم ، وشيئاً فشيئاً بدأ الإسكندر يعتقد أنه إلهاً حقاً وبأكثر من المعنى المجازي لهذا اللفظ ، وبمرور الوقت أزمع الإسكندر على إقتباس عادة جديدة وهي ( السجود ) التي كان يتعين بمقتضاها على جميع من يقتربون من الملك أن يؤدوها ، غير أن هذا الأمر كان يعني في نظر اليونانيين والمقدونيين عبادة حقة للإمبراطور وهو أمر لم يألفوه من قبل ، وعندما إبتدع الإسكندر عادة السجود هذه تطورت الأمور على نحو غير منتظر ، فقد عارضها المقدونيون بشدة وأظهر البعض إستيائه وغضبه بل أن أحد قواده فعل ما هو أسوأ من المعارضة ، فعندما سمع بمطلب الإسكندر إستولت عليه نوبة من الضحك ، وأخيراً إتفقوا معه على أن يُقصر هذه العادة الأسيوية على الأسيويين فحسب ، وكان الإسكندر قد أوتي قدرة فائقة على الإحساس بما هو ممكن من الأمور فأسقط السجود من حسابه نهائياً ، وهكذا نجد أن الإسكندر لم يفكر في تأليه نفسه إلا في الشرق ( موطن تأليه الحكام ) ولهذا كانت آسيا هي الأصل والمنبع للإستبداد في كل الفلسفة السياسية في أوروبا ، وكان الطغيان الشرقي هو النموذج الذي تحدث عنه المفكرون في عصر التنوير .

نظر الرومان لاحقاً إلى فكرة تقديس الشرقيين للملك في إفتتان ورهبة ، ويقال أن قيصر كان يلهو بالتأليه وأصبح مارك أنطونيو بغير خجل هو ديونسيوس ( أوزوريس ) زوج كليوباترا ( إيزيس ) ملكة مصر وأطلقا على طفليهما الشمس والقمر ، ورغم أن هناك بعض من طغاة أوربا قديماً ممن أصيبوا بجنون العظمة مثل (كاليجولا) ، (نيرون) ، (دوميتيان) فهم وحدهم الذين طالبوا بأن يُعبدوا في حياتهم وأن يُنظر إلى كل منهم بوصفه سيداً وإلهاً أي مالكاً للعبيد وإلهاً الفانين ، لكنها كانت كلها محاولات باهتة تحاكي الأصل وهو النموذج الشرقي الذي هو تأليه حقيقي للحاكم .

يتبع لاحقاً

هناك تعليقان (2):

Emtiaz Zourob يقول...

اخي الفاضل ..
يسعدني العثور بمدونتك وماشاء الله على المعلومات التاريخية القيمة .. ربنا يحفظك ودام قلمك بكل عز وحرية وفخر.
تقبل مروري لاول مرة.

البنات حسنات يقول...

وجع البنفسج
تحية طيبة
أسعدني وشرفني مرورك الأول على المدونة ، سعدت بكلماتك الصادقة والمشجعة ، وأهلاً بك دوماً قارئة ومتابعة ، حفظ الله وصانك .

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة