2015/05/11

شاعرية العقد السادس



بقلم : ياسر حجاج
في سني أعمارنا الخضراء ، وعلي أسوار البراءة والعفوية ، نجلسُ مُطوحين أقدمنا في الهواء في حالة من اللهوِ البرئ ، ثم ترانا وقد أجلنا أبصارنا وخواطرنا فيمن يمرون أمامنا ، ممن يكبروننا سناً ، أو حتى يفوقننا قامة ، فنغيبً للحظات عن مشهدنا الطفولي الواقعي ، بالسياحة فيما وراء ما لم يأتِ بعد ،  وقد إستغرقنا في اللحظة المنتظرة ، التي نبلغ فيها مبلغ الكبار ، فنصرخ في وجه الجميع ، بدلاً من أن يصرخ في وجهنا الجميع كما الآن ، في هذه السن لا يعرف أحدنا دلالة الأيام ، ولا معنى تدافع السنين .

نكبر فنلامس مراحل الصبا ، فنتجاوزها بخفة إلى مرحلة الشباب ، فإننا شببنا ، تاقت نفوسنا إلى طور الرجولة ، فإن بلغناه ، طالعنا كتاب عن (أزمة منتصف العمر) أو حتى عن (ربيع الأعمار)  ، أي أنه وبدلاً من أن نتعايش مع كل مرحلة بلغناها بكل ما فيها ، ترانا وقد عدنا نلهو من جديد ، مُطوحين أيادينا هذه المرة ، وقد إستغرقنا مجدداً في المرحلة التي تليها ، وهكذا دواليك ، ففي كل مرة ، معايشتنا مؤجلة ، وفرحتنا مجمدة ، والمحصلة ليست سوى إنتظار طويل لموسم قطف الثمار ، الذي يبدو أنه لن ينضج أبداً ، الآن ربما نعرف لما كنا نفكر في مرحلة التقاعد ، على الرغم من أننا كنا لتونا قد إلتحقنا بسوق العمل .

تمادينا كثيراً في حرق المراحل ، واحدة بعد أخرى ، حتى وصلنا أخيراً إلى المرحلة التي لا تتلوها غالباً مرحلة جديدة على سلم الأعمار ، بل خط نهاية ، نرى معالمه من بعيد ، ولكنه كأوضح ما يكون ، ولعلنا قد أبصرنا أولئك الذين بلغوه ، ثم لم يعودوا ليحكوا لنا  تجارب المشاهدات ، وإنطباعات المعاينات ، وإزاء الغموض الكامن وراء خط النهاية ، فإننا نفعل كل شئ لنظل على بعد مناسب منه ، فلا شئ أخوف للنفس من أن تترك قرص الشمس ، لتستظل ببقعة رمادية .

قبل ذلك قد ننتبه ، فتحدثنا نفوسنا المرحة ، بأنه سيغدو من الجميل لو تجاوزنا الواقع ، وتمردنا على المراحل بكل أشكالها النمطية التي يُراد لنا أن نكون جزءاً منها ، فنمسك ريشتنا ، ونرسم بأنفسنا العالم الذي طالما أحببناه فلم نجده ، والناس الذين وددنا لو قابلناهم ، فلم يُتح لنا إلى ذلك سبيلاً  ، فنبتدع عوالمنا ، شخوصنا ، وكل مرئياتنا ، حيث ممارسة الفصام الإرادي بكل معنى الكلمة ، حيث مجاوزة اللحظة الآنية ، والقفز إلى فضاء الدهشة .

وعلى صدى الوجيب الذي يضرب أفئدتنا ،  قد نتوقف ونسأل أنفسنا .. ما المراحل ، بل ما الأعمار ؟ شخصياً لا تهمني أية إجابة قاطعة ، ربما هي رقم في دفتر ، أو منبه باهت يُذكرنا بعيد ميلاد ، وهدايا تأتينا مهنئة إيانا بأننا مازلنا على قيد الحياة ، وأن لقب (المرحوم) ضل طريقه إلينا هذه المرة ، ولأنه ليس لدينا خطط عملية واضحة ، فإننا في الغالب سنهيم في الزحام كما الجميع ، إنتظاراً لكارت أحمر يُرفع في وجوهنا ، فنخرج من ساحة عريضة ،  لم تُراع فيها قواعد وأخلاقيات اللعبة بالقدر المأمول .


صحيح أن بالحياة ، ما يستحق العيش من أجله ، لكننا أيضاً نقول في مواضع أخرى ، أن ليس بها تقريباً ما يدعونا إلى التشبث بها ، إلا بمقدار الشوط الذي نود أن نقطعه في تثيبت دعائم ، أو إزالة معوقات ، أو حتى إضافة بعض النكهات ، وإذا كنا نشعر ببعض الإمتعاض أو الإحباط ، فإننا غالباً ما نعمد إلى خلق حالة من الترضية لأنفسنا ، مفادها أن من سيخلفوننا سيعملون بجد على تقدير ما كان من مسعانا وإجتهادنا ، كل على طريقته ، المشكلة أننا لن نكون هناك ، لنبدي لأحدهم أو إحداهن بعض الإمتنان .

غالباً لن تعطينا الحياة فرصاً جديدة للتجريب ، ولن يكون في وسعنا كل مرة ممارسة فن الإسترخاء عن بعد ، وكوننا قد أحرقنا مراحلنا السابقة ، بالتأبي على معايشتها ، والتمرد على الإنخراط الواقعي بها ، فإن هذا ليس نهاية المطاف ، فبوسعنا خلق مرحلة جديدة ، لعلها الأهم في المسيرة الشخصية لكل منا ، الا وهي المرحلة الشاعرية ، حيث الإطلالة النقية والصادقة ، وربما الأخيرة على العالم بكل ما فيه ، وأياً ما كان العمر الذي بلغنا ، أو التوفيق الذي صادفنا ، فإن شاعريتنا وحدها ستكون كفيلة بضبط زوايا الرؤية ، وتحديد المسارات لنا ، وستعمل على مساعدتنا في لملمة تلك الأشياء الكثيرة التي سقطت من بين أيدينا ، عبر عقود قد خلت من أعمارنا ، فهي مكافأة نهاية الخدمة التي ستتيح المحافظة على قدر معقول من أسباب البقاء .

صحيح أن عجلة الزمن قد دارت بنا ، وضرب الشيب عوارضنا ، لكن لا بأس ، فقليل من الحناء الداكنة ستكون كفيلة بمعالجة الأمر . أما عن مرايانا .. هل تظهر لنا حقيقة ما ؟ ربما ، ولكنها تعكس ما نود نحن أن نراه . مازلنا شباباً .. أليس كذلك ؟ نعم .. نعم .. فربطات العنق الملونة لن تختفي ، وقناني العطر ستظل شاهدة على الألق ، وفناجين القهوة التركية سترسم من بعيد صورة جانبية للمشهد ، أما عن أقراص علاجنا ، فلما نُعرها أي إنتباه ؟ ألم نقل دوماً ، أنه لا أشر من المحامين سوى الأطباء ؟ .

الشاعرية ستقطع الطريق على حالة تململنا ، ولسوف تخبرنا أن لكل مرحلة عمرية طاقتها وحيويتها ، بل وجاذبيتها ، ومهما بدت اعمارنا متأخرة ، أو تراءت لنا وكأنها تلهث في أمتارها الأخيرة ، فلسوف تحفزنا هذه الشاعرية على خوض غمار تجارب جديدة ، ككتابة مذكراتنا مثلاً ، وسنتفاجئ حقاً بأن لدينا الكثير مما يستحق أن يُقال ، وبالتأكيد سنجد من لديه الإهتمام للإستماع أو القراءة ، حتى ولو من باب التسلية أو العزاء ، نستطيع أيضاً - وعوضاً عن كتابة المذكرات - الإكتفاء بدفتر يوميات صغير ، حيث الرصد الحي والأمين للمشاعر والحماقات ، فجميعنا يحب الثرثرة بكل تأكيد . 

الشاعرية بدرجاتها المتفاوتة ، ستعمل معك على إستنبات طاقات حيوية جديدة ، كإستقبال زوار وأضياف جدد ، حيث أحاديث السمر مع صنف لا يشبهنا ، ولا نشبهه ، فن الحوارات الصامتة الطويلة بلا عناء ، دجاجات تصيح ، أرانب وادعة شاهدة على صلف الآدميين ، زهور وزروع ، قصاري ورد بالشرفات ، كاسات ماء مزدانة بالنعناع ، لوحات زيتية مبهمة محنطة على جدار ، صفحة بيضاء بغرف مكاتبنا كُتب عليها (الآن .. الآن .. وليس غداً) .

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة

زوار المدونة

أون لاين


web stats
Powered By Blogger

مرات مشاهدة الصفحة